يسود في الحقل الفقهي اليوم نقاش علمي خصب حول آليات تجديد الأحكام الشرعية: هل يكون التجديد من داخل المنهج الأصولي الذي وضع لاستثمار دلالة النص المقدس، أو عبر صناعة الفقه نفسه كممارسة يقترن فيها بُعد التأويل ببعد التشخيص والتنزيل، أو من خلال أدوات المناهج التأويلية المعاصرة المتمحورة حول العلوم الإنسانية الجديدة؟ للسؤال جوانبه المعقدة التي تهم أهل الاختصاص، وليس هنا مجال تناولها. إن ما نريد أن نتعرض إليه في هذا الحيز هو مدى إمكانية بناء فلسفة للفقه، تنضاف إلى المناهج والمقاربات التي تناولت الحقل الفقهي في رهاناته وإشكالاته العديدة المتنوعة. ولا بد من التنبيه إلى أمور ثلاثة تحتاج للتوضيح قبل محاولة سبر هذا الموضوع: أولاً: على الرغم من أن العديد من فلاسفة الإسلام في العصر الوسيط كانوا فقهاء كباراً كتبوا في الأحكام الشرعية، إلا أنهم لم يؤسسوا لنظرة فلسفية محكمة في القضايا الفقهية. يصدق هذا الحكم على فيلسوف قرطبة "ابن رشد" الذي كان تقليدياً كلاسيكياً في كتابه الفقهي الأساسي "بداية المجتهد"، في حين دافع في أعماله الفلسفية عن المقاربة الأرسطية في أصولها النظرية والمنهجية. وإذا كان تصنيف العلوم لدى "ابن سينا" خلا من أي ذكر للفقه، فإن الفارابي في "إحصاء العلوم" صنف الفقه ضمن العلوم المدنية التابعة للسياسة المدنية. ثانياً: إذا كان الفلاسفة العرب المعاصرون دأبوا على الاهتمام بأصول الفقه منذ "مصطفى عبدالرازق" الذي اعتبر "أصول الفقه" من المباحث الفلسفية، انتهاء بحسن حنفي الذي درسها كمنهج لتحليل النص والوعي، إلا أن أصول الفقه من حيث هي علم لاستخراج الأحكام التكليفية تأويلًا واستنباطاً لا يمكن إدراجها في المنحى الفلسفي على الرغم من خصوبتها النظرية التي لا جدال حولها. ثالثاً: أطلق المفكر المغربي "طه عبدالرحمن" على مشروعه الفلسفي عبارة "فقه الفلسفة". وتعني هذه العبارة لديه امتلاك أساليب الإبداع الفلسفي ممارسة وتجديداً، وبالتالي فإنها لا تتعلق بعلم الأحكام الشرعية وإنما بالقول الفلسفي نفسه. إن ما نريد أن نعنيه بفلسفة الفقه هو إخضاع النص الفقهي في مفاهيمه وأدواته النظرية والإجرائية لمسلك النظر الفلسفي، من منطلقين رئيسيين: أولهما: كون الفلسفة "لا موضوع لها" كما كان يقول "ألتوسير"، بمعنى أنها قابلة للانتقال إلى كل مناحي الشأن الطبيعي والإنساني دون تمييز. فالفلسفة تتغذى من الحقول المعرفية الأخرى وتتجدد وتنمو من خلال تغيير مجالات اهتمامها وميادين انطباقها. ثانيهما: إذا كانت الفلسفة كما عرفها "جيل دلوز" هي "فن اختراع المفاهيم"، فان المفاهيم متعددة ومنتشرة في الحقول المعرفية الأخرى. والأساس في المبحث الفلسفي هو ضبط البنية التصورية لهذه المفاهيم وإخضاعها للنهج الإشكالي التساؤلي. ومن هذا المنظور، يتعين الإقرار بأن تمديد النهج الفلسفي للمباحث الفقهية لا يزال في خطواته الأولى، ولا يمكن أن نعتبر محاولات البناء الفلسفي للنظرية الأصولية من تجلياته وتعبيراته، كما أنه أدق في المسعى والمسلك من المقاربات الجريئة لتأسيس فلسفة دين معاصرة في الحقل الإسلامي. إن فلسفة الفقه بالمعنى الذي نقصده هي جانب من المبحث الفلسفي يتناول الموضوعات الفقهية في جوانبها الثلاثة الرئيسية: القيم والتشريعات والخطاب. في مستوى القيم، يتعين النظر إلى الأحكام التكليفية بصفتها في الجوهر قيماً وأخلاقيات أي مقتضيات معيارية لتوجيه السلوك الفردي والجماعي، بدل النظر الرائج حولها كقوانين بالمفهوم الوضعي الحديث. وتتوزع القيم إلى دوائر ثلاث -حسب التصنيف الذي يقوم به بول ريكور- وهي: دائرة "الأتيقا" التي هي مجال المقاصد العليا والتصورات الجوهرية (مقاصد الشريعة) ودائرة الأخلاق التي هي مجال الإلزامات الذاتية الكلية الصادرة بحرية عن الواجب (أحكام التكليف وجوباً ومنعاً) ودائرة الحكمة العملية أو "الاهتمام بالذات" التي هي مجال الترقي والاكتمال والتسامي بالنفس وهي ما يشمله المبحث الصوفي. وباستثناء دراسة "محمد عبدالله دراز" اليتيمة في الخمسينيات حول "دستور الأخلاق في القرآن الكريم" التي طبق فيها فلسفة كانط العملية في قراءة أحكام التكليف، لا نجد أي محاولة فلسفية مكتملة للنظر إلى المنظومة القيمية الفقهية. وفي مستوى الجوانب التشريعية، يتعين البحث في طبيعة الأمرية الفقهية ضمن مبحث فلسفي موسع حول المسألة اللاهوتية- السياسية في الإسلام. ولابد هنا من دحض التصور السائد في الدراسات الاستشراقية حول مركزية الأمرية القانونية في المنظومة العقدية الإسلامية، والحال أن هذه الأمرية -كما يبين طه عبدالرحمن- هي نقيض السلطوية القانونية من حيث كونها تقوم على وضع الحدود الضابطة والمقيدة للعقوبة أي لميل البشر إلى الشطط في الجزاء واستخدام العنف والقوة. وتتعلق بهذا المبحث الإشكالات الفلسفية المتصلة بالعدالة في بعديها الجوهري والإجرائي. وفي مستوى الخطاب الفقهي، يتعين التمييز بين مستويين: مستوى التأويل (الهرمنوطيقا) الذي يتعلق بعلاقة النص والعالم، ومستوى التحليل الذي يتعلق بنظام الملفوظات والمفاهيم وطبيعة المجال التداولي. المبحث الأول يبرز العلاقة الدائرية المركبة بين أفق المرجعية التكليفية والسياق التأويلي البشري، والمبحث الثاني يكشف عن مسار تشكل المفاهيم ورهانات إنتاج الخطاب وتداوله بصفته رأسمالًا لغوياً وتصورياً قابلًا للتوظيف والاستخدام والاستهلاك وفق اتجاهات واستراتيجيات شتى. قد تكون فلسفة الفقه ضرورية اليوم لتجديد المبحث الفقهي وإعادة بناء العلوم الشرعية. فإذا كان الفكر الإسلامي الوسيط طور علمين كبيرين لاستثمار أحكام الشرع هما علم أصول الفقه ومنهجية القواعد الفقهية، فإن هذا التراث العلمي الغزير والخصب يوفر مادة واسعة للاستكناه الفلسفي لم تنل بعد الاهتمام المستحق. صحيح أن نموذج الفيلسوف الفقيه (الغزالي وابن رشد...) اختفى تقريباً من حياتنا الفكرية، بل إن الدراسات الكلامية والفلسفية انحسرت في مدارس وأقسام العلوم الشرعية، بيد الكثير من المحاولات الفكرية الأخيرة لإعادة التفكير في المدونة الأصولية لامست ولو بطريقة غير مباشرة الإشكالات الفلسفية. وكما يقول "كارل ياسبرز":" إن الذين يرفضون الفلسفة يسقطون ضحية لأسوأ الفلسفات".