في الدول القمعية والديكتاتورية ككوريا الشمالية من الطبيعي أن تكثر الشائعات والتساؤلات إزاء أبسط الأمور، طالما أن الحقائق مغيبة، والإعلام مقيد، وحرية السؤال والبحث ممنوعة. ففي أوائل الشهر الجاري تناسى الكوريون الشماليون بؤسهم وأوضاعهم المعيشية المزرية، وراحوا يتساءلون عن شخصية السيدة الحسناء التي ظهرت جالسة إلى جانب زعيمهم اليافع "كيم جونغ أون" في حفل غنائي، خصوصاً وأن وسائل الإعلام المحلية لم تشر إلى تلك السيدة من قريب أو بعيد، وكأنها لم تكن في المشهد إطلاقاً. فمن قائل إنها شقيقته الصغرى، إلى قائل إنها إحدى محظياته، إلى قائل بأنها زوجته التي تعرّف عليها أيام دراسته في سويسرا... الأمر الذي أعاد إلى الأذهان ما اكتنف حياة والده "كيم جونغ إيل" من أسرار ومغامرات نسائية. ولم يمر على تلك الحادثة سوى أسبوعين حتى كان الكوريون ومعهم العالم أجمع يتساءلون عن موضوع محير آخر هو القرار المفاجئ لـ"زعيم الأمة" بإعفاء قائد جيشه الجنرال "ري يونغ-هو" من منصبه بداعي المرض، خاصة أن هذا الأخير كان قد ظهر إلى جانب زعيمه قبل فترة وجيزة في صحة جيدة، وهما يتفقدان قواعد عسكرية، ناهيك عن ظهوره في مطلع الشهر متمتعاً بكامل لياقته أثناء مراسم تكريم مؤسس الأمة "كيم إيل سونغ" في ذكرى رحيله. ولما كان ذلك الجنرال تحديداً من ضمن من أمّنوا انتقال السلطة بسلاسة إلى الصبي "كيم جونغ أون" من والده الذي توفي في ديسمبر الماضي. ولما كان الجنرال "ري يونغ-هو" من الشخصيات العسكرية الأساسية المعروفة تاريخياً بولائها لآل كيم (الأمر الذي ساهم في صعوده السريع في سلم الرتب العسكرية في الجيش الأحمر الكوري إلى أن تم تعيينه في 2009 كقائد لذلك الجيش الذي يضم 1.2 مليون عنصر، ويعتبر من أضخم الجيوش مقارنة بعدد السكان الذي لا يتجاوز 24 مليون نسمة)، فإن الكثيرين شككوا في السبب المعلن لإزاحة الجنرال البالغ من العمر 69 عاماً من منصبه العسكري ومنصبه السياسي كعضو في المكتب السياسي للجنة المركزية لحزب العمال الكوري، خصوصاً وأن بيونج يانج نادراً ما أقالت مسؤولا من وظيفته لدواع مرضية. وهكذا زعم البعض أن هناك أسبابا أخرى لإقالة الجنرال؛ مثل وجود صراع داخل المؤسسة العسكرية بين الجنرالات العواجيز ومن يصغرونهم، أو رغبة في تطهير الجيش من القادة الذين تعاظم نفوذهم مع مرور الزمن لصالح تعزيز سلطة حزب العمال الشيوعي الحاكم منذ عام 1948، أو نية من لدن الشاب الحاكم في وضع بصمته الخاصة على القرارات المتعلقة بالحزب والجيش والدولة، وإرسال رسالة في الوقت نفسه إلى بقية الجنرالات أن مصيراً مشابهاً ينتظرهم إنْ قرروا شق عصا الطاعة العمياء والولاء المطلق، وأنه ليس دمية يمكن للعسكر أن يحركوها متى ما شاؤوا مثلما تردد بُعيد تسلمه السلطة حينما قيل إن قلة خبرته وصورته كشاب مدلل تساعدان العسكر على التحكم فيه. إن هذا الاهتمام الإعلامي والسياسي بما يجري في كوريا الشمالية من أمور قد تكون تافهة عند البعض، لا ينبع من أهمية هذه البلاد وثقل دورها الإقليمي أو الدولي بقدر ما ينبع من تأثيرها المدمر على جاراتها بصفة خاصة، وعلى العالم بصفة عامة في حال تنفيذ قيادتها اليافعة غير المحنكة لسياسات طائشة، لاسيما وأنها تعيش عزلة دولية قاتلة، وتمتلك أسلحة نووية وكيميائية إلى جانب ترسانة ضخمة من الصواريخ البالستية عابرة القارات، الأمر الذي يشبه كثيراً مشهد امتلاك طفل صغير مدلل لمسدس محشو بالرصاص القاتل. لقد أثبت "كيم جونغ أون" منذ وصوله إلى السلطة في يناير 2012 أنه يمارس سياسات متناقضة ورعناء مشابهة لسياسات أسلافه، فخيب بذلك آمال المجتمع الدولي الذي توقّع منه أن ينتهج نهجاً مخالفاً لنهج والده وجده. فبعيد تسلمه سلطاته سارع فوراً إلى تهديد كوريا الجنوبية بـ"حرب مقدسة"، ولم تمض فترة قصيرة على توصل واشنطن وبيونج يانج إلى اتفاق تحصل بموجبه الأخيرة على مساعدات غذائية واقتصادية مقابل وقف برامجها الصاروخية، إلا وهي تطلق صاروخاً جديداً ضمن تجاربها البالستية، وهو الصاروخ الذي فشلت تجربته باعتراف أصحابه. ومثلما كثرت التساؤلات في الداخل والخارج عن السيدة الحسناء، وعن أسباب إقالة الجنرال "ري"، كثرت التساؤلات والشائعات حول اختيار الجنرال "هيون يونغ تشول" كخلف لـ"ري" في قيادة الجيش. فالخبر الذي نقلته وكالة الأنباء المركزية الرسمية التابعة لحكومة بيونج يانج لم يتضمن كالعادة أية تفاصيل حول أسباب الاختيار، بل لم يشر حتى إلى السيرة الذاتية لقائد الجيش الجديد، مما أكد طابع السرية الذي يغلف كل شيء في هذه البلاد التعيسة. وفي مثل هذه الحالات لا يبقى أمام المتعطش لمعرفة الحقيقة سوى أن يطرق أبواب الكوريين الجنوبيين باعتبارهم الأكثر إطلاعاً على شؤون أشقائهم في الشمال بحكم اللغة المشتركة والتاريخ الواحد، ناهيك عن متابعتهم الدقيقة أولا بأول لتطورات الأوضاع في الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية من باب درء المخاطر وتفادي المفاجآت المزعجة. يقول الكوريون الجنوبيون إن قائد الجيش الجديد هو أحد الجنرالات المقربين من "كيم جونغ أون"، بدليل أن الأخير وقف وراء ترفيعه من "ليفتينانت جنرال" في الجيش الثامن مدرع إلى رتبة جنرال أثناء اجتماعات حزب العمال الحاكم في سبتمبر 2010، وأن اسم الرجل لم يرد في تقارير وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية سوى ثلاث مرات منذ عام 2008، وبالتالي لا يــُعرف عنه الكثير. وطبقاً لأستاذ الدراسات الكورية الشمالية في جامعة سيئول البروفسور "يانغ مو جين" فإن قائد الجيش الجديد يتفق مع "كيم جونغ أون" حول فكرة أن تكون الأولوية لبناء الوطن وليس للجيش، بينما كان القائد المقال يتبنى العكس متفقاً في ذلك مع الزعيم الراحل "كيم جونغ إيل"، ويضيف قائلا إن أحد أسباب إزاحة الجنرال "ري" ربما يكون رفضه لأوامر عليا بإسناد مهام غير عسكرية لعناصر الجيش من أجل إنجاز مشاريع اقتصادية بعينها. ويدعم البروفسور الجنوبي فكرته هذه بالرسالة التي وجهها حاكم بيونج يانج إلى جنود جيشه فور إقالته للجنرال "ري"، والتي شكرهم فيها على مساهماتهم الجبارة في إنجاز مشاريع الطاقة الهيدروليكية وصناعة الأغذية المحفوظة.