"يا الله... ما لنا غيرك... يا الله"، هو الشعار الأخير الذي أطلقته الثورة السورية بعد أن تركتها جميع القوى الإقليمية والدولية تقاوم بمفردها. وتتوج شعارات دينية أخرى مثل "حسبنا الله ونعم الوكيل" أو "الله أكبر". فالدين ملاذ للحماية وطلب النصر، والأمل في المستقبل. لم يسمع أحد من الإخوة العرب، وسوريا قلب الأمة العربية، ولا من القوى الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان وبدخول الحرب العالمية الثانية إنقاذاً للعالم من مذابح النازية والفاشية، لم يسمع أحد صراخ الأطفال والنساء والمسنين، وأنات المعذبين المكبلين، يدين وقدمين، والمجلودين على الظهر والأقدام بالسياط. لم يسمع العرب استغاثة الثوار السوريين "صمتكم يقتلنا" أو نساء سوريا "وينكم يا عرب" وفي ذاكرتهم صلاح الدين والظاهر بيبرس القادمين من مصر ومعارك عين جالوت، ومرج دابق، وقيم الشهامة العربية والنخوة العربية وفي آذانهم صرخة المرأة العربية التي أهانها الروم "وامعتصماه" واستجابة المعتصم بالله في بغداد وإرسال الجيوش لتحريرها. وإذا كانت أيدي الحكومات مقيدة بقواعد الدبلوماسية فأين الشعوب التي تنزل إلى الشوارع بالآلاف لتسمع صوتها، وتبين مؤازرتها للشعب السوري. وإذا كانت الشعوب مشغولة بلقمة العيش فأين ثوار الحراك العربي القادرون على حشد الملايين والاعتصام بالميادين لحشد ملايين أخرى والقيام باعتصامات أخرى من أجل الشعب السوري؟ وأين الأمة الإسلامية من المغرب إلى الصين، وحدتها وأخوتها. "والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر، لماذا لم تسوِّ لها الطريق؟". وأين رسالة عمر إلى والي مصر عام المجاعة "الغوث، الغوث. النجاة، النجاة" واستجابته بإرسال الأطنان من الحبوب؟ يبدو أن الذاكرة تضعف حين يُراد لها أن تقوى، وتقوى في الحدود حين يُراد لها أن تضعف. والمجتمع الدولي الذي تدخل بالسلاح في ليبيا وفي كوسوفو ما زال يتردد كي يبقى النظام السوري على حاله فهو أكبر ضمان لوجود إسرائيل واستمرار احتلال الجولان. فالغرب بين نارين، نار الدماء التي تسيل من الشعب السوري، ونار الحفاظ على إسرائيل من أي نظم عربية مجاورة تعمل على تحرير فلسطين. لم يبق للثورة السورية إلا الاعتماد على الذات، والاستمرار في المظاهرات ليل نهار، وسقوط الشهداء يومياً بالمئات تحت أعين مراقبي الأمم المتحدة وباسم خطط مجلس الأمن والجامعة العربية. لم يبق للشعب السوري إلا الجيش السوري الحر المنشق عن جيش النظام الاستبدادي، الذي رفض الخروج عن مهمته في الدفاع عن البلاد وتحرير الجولان والدفاع عن الأمن القومي إلى ضرب الشعب وهدم المنازل وقتل النساء والأطفال والمسنين بقذائف الدبابات وراجمات الصواريخ أو إعداماً للشباب رمياً بالرصاص في الميادين العامة مكبلي الأيدي والأرجل ومعصوبي العينين كخونة مجرمين ودون محاكمة أو الحفاظ على أدنى الحقوق. ولا يقال إن الثورات العربية لم تستقر بعد، وإن الحراك العربي مشغول بما فيه، تونس، مصر، ليبيا. كل منهما "اللي فيه مكفيه" لأنه لا تعارض بين الانتقال الثوري في الداخل والتأييد الثوري في الخارج. فعلى رغم أن الثورة في تونس لم تستقر بعد، وأنها فيما يبدو في معركة مع السلفيين المتشددين إلا أنها قادرة على حشد الآلاف لتأييد الثورة السورية. وعلى رغم أن الانتقال الثوري في مصر لم يتم بعد بل يتراجع لأن النظام الاستبدادي السابق لم يسقط بعد وإن سقط رأسه، وأن المجلس العسكري مازال استمراراً للنظام السابق مسيطراً على السلطتين التشريعية والتنفيذية وربما يوجه القضائية حرصاً على استقرار البلاد، وأن البدائل الثورية مفككة كل يعمل لصالحه، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون العين الأخرى على سوريا أو فلسطين. فالثورة لا حدود لها. الثورة روح تسري في جسد المضطهدين. وعلى رغم أن الثورة في ليبيا ما زالت في حالة عدم استقرار. ولم تتحول بعد الجماعات المسلحة إلى دولة إلا أنها قادرة على تجنيد الشعب الليبي لمناصرة الشعب السوري حتى لا يشعر الثوار السوريون بأنهم بمفردهم فيستأسد النظام السوري عليهم. إن ثورة الشعب السوري أقوى ثورات الحراك العربي صموداً وأكثرها تكلفة: خمسة عشر ألف شهيد، وسبعين ألف جريح وألف معتقل. وأطولها عمراً، عاماً ونصف. وما زالت مستمرة. تقوى يوماً بعد يوم. والنظام يفقد أعصابه يوماً بعد يوم. ويزداد شراسة وتقتيلاً. وأصبح لا يدافع عن نظام بل يدافع عن نفسه، عن فرد ونظام وربما طائفة. إن لم يُسقط الفرد فهو مقتول "الشعب يريد إعدام السفاح". والشعب السوري معروف بأنه صعب المراس في مواجهة العدو الخارجي والآن أيضاً ضد المستبد الداخلي. لم يعد الحل الأمني قادراً على إخضاع الثورة. ولم يعد الحل السياسي مقبولاً من الثوار فلا حوار بين القاتل والمقتول. وكما امتدت الثورة من تونس إلى مصر إلى ليبيا في امتداد جغرافي واحد فكذلك قد تمتد الثورة من سوريا، قلب الشام إلى لبنان والعراق ثم فلسطين كامتداد جغرافي وتاريخي واحد وكما حلم بذلك أنطون سعادة والحزب القومي السوري الاجتماعي ودفع حياته ثمناً لهذا. ثورة لبنان ضد الطائفية ومن أجل العدالة الاجتماعية وفي سبيل قضية فلسطين. وثورة العراق ضد التفتيت والصراعات الداخلية، ومن أجل العودة إلى وحدة العراق العربي الوطني بكافة طوائفه وأعراقه، عراق ثورة 1958 وإنقاذه مما هو فيه من ضعف وتجزئة وتقتيل وهوان وتدخل أجنبي. اللجوء إلى الدين كملاذ له مخرجان، الأول الاستمرار في مناجاة الله طلباً للعون ولشد الأزر، والدعوة على الظالمين، والترحم على الشهداء. فالله لا يخذل المظلوم. ويستجيب لدعوته. وقد تتحول المظاهرات النهارية إلى حلقات ذكر ليلية لتقوية العزائم. هكذا نشأ التصوف عندما استشهد أئمة آل البيت في مقاومة طغيان بني أمية. ولم تعد المقاومة على الأرض تجدي فاتجه الأخيار رافعين أيديهم إلى السماء. والثاني الاستمرار في المقاومة "اشتدي يا أزمة تنفرجي". و"الباطل حيله قصير"، والحق ذراعه أطول. تلك شهادة الأنبياء في مقاومة الطغاة، موسى مقاوماً لفرعون. والشهداء ينادون على مزيد من الشهداء "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة". وبعد انتصار الثورة يُعاد بناء الشام، والأحياء القديمة في حمص وحماة وحلب ودمشق التي أراد الطغيان محوها تاريخياً في مقاومة التتار والمغول والفرنجة. لقد بعث الحراك العربي الجسم العربي من رقاده. الرأس في الشام، والقلب في مصر، السواعد في الشام، والأقدام في مصر. وما بينهما الجسد العربي. حينئذ تجد إسرائيل العرب في مواجهتها بعد أربعة وستين عاماً من جديد. فقد كان العرب باستمرار في مواجهتها منذ 1948 وهم غير مستعدين، متفرقون، ضعفاء، غير مدركين لخطورة التوغل الصهيوني. والآن، وبعد "الربيع العربي" بدأ العرب بأنفسهم. وعاد العرب أحراراً ليحرروا شعب فلسطين.