تقوم التنظيمات الدينية السياسية على أساس الدين، والدين حمّال أوجه، وبالتالي فهي تقوم على تفاسير وفهم منظريها ومؤسسيها للدين، فهم يتبنون موقفاً سياسياً بناء على فهم وتفسير ومصلحة قيادة ذلك التنظيم، ولذا فإن الفكر الديني السياسي طائفي بطبيعته، فالتنظيمات الدينية السياسية أحادية اللون والفكر، وتتبع تفاسير بشر تضفي عليهم هالة قدسية، وتسوق فتاواهم على أنها مُسلّمات دينية لا تحتمل الخطأ والصواب. تعتبر الأحزاب السياسية المدنية وليدة الدولة المدنية الحديثة، وتعتمد برامج دنيوية اقتصادية وسياسية براجماتية تتعامل مع الواقع وتترك علاقة المواطن بالآخرة ليتعامل معها بطريقته التي يراها أصح وأسلم، وتطرح برامجها بما تراه صالحاً لكافة مواطني الدولة بسواسية وعدالة، وهي لا تضفي قدسية على رأي منظريها، ولا ترى لقادتها منزلة فوق البشر، وترفض تأليه رموزها، صحيح أن بعض المندفعين يغالون في التبعية لشخصية كاريزمية سياسية هنا أو هناك، ولكن نقد تلك الشخصية وإبعادها من التنظيم مسألة واردة جداً، والأمثلة على ذلك كثيرة ولعل أشهرها إبعاد المرأة الحديدية مارجريت تاتشر من قيادة حزب المحافظين عام 1990. كما أن من يدعي المدنية الحزبية في عالمنا العربي لم يختلف كثيراً عن أتباع الحزبية الدينية: تأليه الرموز والقيادات في عالمنا جزء من تخلف الواقع السياسي الذي تعيشه الحالة السياسية الراهنة. تقوم التنظيمات السياسية المدنية على فكرة القناعة، وليس على فكرة الوراثة، فقد تكون من هذا الدين أو ذاك، وقد تتنوع طوائف المنظمين للحزب وقومياتهم وألوانهم، كما يمكنك أن تغير من تلك القناعات وتخرج من هذا الحزب وتنضوي تحت حزب آخر، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك رمز من رموز الحزب الجمهوري الأميركي -رونالد ريجان- الذي بدأ مع الحزب الديمقراطي سنين، ثم انتقل إلى خندق خصمه ليكون أحد عتاته وأساطيره. وغالباً لا يترتب على الخروج من تنظيم مدني لآخر أي عقوبات أو تبعات أو تكفير أو ملاحقة، وهو أمر شبه مستحيل في التنظيمات الدينية. في المقابل، فإن التنظيمات الدينية السياسية تقوم على فكرة الخلاص في "الدنيا والآخرة"، وهي فكرة عقائدية عليك أن تسلم بها تسليماً، وعليك أن تلتزم بقواعد غير قابلة للنقاش حسبما فسرها منظرو التنظيم وقادته. لا يمكن أن تجد تنظيماً دينياً سياسياً يضم أطيافاً داخله، فكوادر التنظيم الديني يأتون دوماً بالوراثة، فبينما تقوم التنظيمات المدنية على أساس القناعات المشتركة، تقوم التنظيمات الدينية على الموروثات المشتركة، فالتنظيمات الدينية السياسية السنية أتباعها من السنة الذين ولدوا سنة، وأتباع التنظيمات الشيعية السياسية ولدوا في بيوت شيعية (مع بعض الاستثناءات النادرة في الحالتين)، وتقوم في تراتبيتها الحزبية على الالتزام بالتنظيم مدى الحياة، ونادراً ما تجد أحد قيادات تنظيم سياسي طائفي قد انتقل إلى تنظيم آخر سواء داخل الطائفة أو خارجها، وبخروجه "على الجماعة" والتنظيم، وتمرده على قواعد "دينية" فرضها الحزب، يتعرض لأبشع أنواع الملاحقة والخصومة الفاجرة بل وربما التكفير وإهدار الدم، ولعل ما يتعرض له الشخصية الإعلامية الدكتور طارق السويدان من هجوم ديني هو مثال من أمثلة كثيرة. فالسويدان طرح أفكاراً تتعارض مع "القواعد"، فكان نصيبه الهجوم من قيادات دينية، والقادم قد يكون أخطر لو استمر في نشر خروجه المرفوض وإن كنت أشك في استمراره. التنظيم الحزبي يقوم على الإيمان بأفكار مشتركة بين أعضائه، ولكن "الحزب" بثقافتنا السياسية (بشكليه الديني والمدني) ارتبط بالتبعية والطاعة العمياء وتقديس الرموز وعدم الخروج والتمرد، وارتبط بالسعي المحموم للوصول إلى السلطة -انقلاباً أو انتخاباً، ومن أجلها تهون المبادئ وتداس القيم وتهدر الدماء ويموت الأبرياء.