كان لاندلاع الأزمة المالية العالمية الأخيرة سنة 2008 تأثيرٌ مدمر على بعض دول الاتحاد الأوروبي، أكثر مما تأثر إقليم أي بلد آخر في العالم، بل إن المشروع الأوروبي نفسه دخل لأول مرة، تحت وقع ضربات الأزمة، في مرحلة الأسئلة، وكأن الحلم الأوروبي الجامح بالاتحاد والاندماج قد أدرك نهايته فجأة، بحيث أصبحت دول مهمة في الاتحاد تعطي إشارات عزوف محسوسة عن الاستمرار في تحمل التزاماته، فيما وجدت دول أخرى أكثر هشاشة مالية، مثل اليونان، نفسها وهي تعيد طرح أسئلة المنطلق من الصفر، وتتجرع خيار الاستفتاء حول البقاء ضمن الحلم الأوروبي الجامع، أو الخروج منه، ومن الباب الصغير! وما زالت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تسري حتى اليوم في بلدان أوروبية عديدة تشمل إضافة إلى اليونان إيرلندا وإيسلندا، البرتغال أيضاً وإسبانيا وإيطاليا، والقائمة طويلة. بل إن دولة أوروبية كبرى، هي فرنسا وجدت نفسها فجأة وهي تهوي على درجات سلم وكالات التصنيف الائتماني لتفقد تصنيف A الثلاثي. وهنالك صور أخرى كثيرة من مظاهر السقوط الأوروبي، لا يمتد إليها الحديث في المجالس العلنية، وما زالت تضغط إلى منطقة الظل والمسكوت عنه إعلامياً وسياسياً، حتى الآن على الأقل. ولعل هذا المسكوت عنه تحديداً هو ما يسعى الكاتب الأميركي ميكاييل لويس لإماطة اللثام عن بعض جوانبه في كتابه الأخير: "أوروبا: رحلة في العالم الثالث الجديد"، الذي صدَّر عنوانه بعبارة تجاهلناها هنا في ترجمته هي Boomerang ذات الدلالات الكثيرة والأذيال الطويلة في الثقافة الغربية. (وباختصار شديد، وشبه مُخل، فهذه الكلمة في الأصل تطلق على حربة معقوفة كان سكان أستراليا الأصليون يستخدمونها في الصيد، وقد ظهرت لرمي هذه الحربة استخدامات رياضية حديثة، تكون الرمية المثالية فيها هي المقوسة التي تعود الحربة فيها لتسقط من حيث بدأت). ولعل هذا المعنى الاستعاري هو المقصود هنا تحديداً، في إشارة إلى أن المشروع الأوروبي بعدما طار عالياً وارتفع... عاد أخيراً ووقع. والشاهد في هذا التشبيه أن الكاتب يتتبع في كتابه أحوال سقوط مختلف البلدان الأوروبية ليرصد من خلال قراءته الاستطلاعية حقيقة وحجم تأثير المحنة المالية عليها، مستعرضاً مظاهر وتداعيات الانهيار على الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. وبأحكام الواقع القائمة على الأرض يرى الكاتب أن بعض الدول الأوروبية الأكثر تأثراً بالمحنة المالية ربما دخلت الآن من الباب العريض في خانة دول العالم الثالث، وهو ما يزيد بُعد الشقة بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى التي حافظت حتى الآن على تماسكها المالي والاقتصادي. ومن خلال عمليات الرصد والمقارنة تلك يقدم الكاتب بأسلوب تحليلي ناقد وجهاً آخر لأوروبا المعاصرة، هو أبعد ما يكون عما يولده ذكرها في الأذهان من صور نمطية عن التقدم والازدهار والحداثة. وإذا كان شر البلية ما يضحك، فإن الأسوأ من ذلك هو البلايا السوداء الكالحة التي لا تضحك. وهذا هو حال البلية الأوروبية اليوم. ونسجاً على هذه الفكرة قالت ناقدة فرنسية في عرض سريع لهذا الكتاب إن المرء سيجد نفسه أثناء القراءة مضطراً لتغيير قسمات وجهه بسرعة، انقباضاً وانبساطاً، بين الكآبة الشديدة، والضحك العبثي، لأن لوحة القارة العجوز التي يرسمها "لويس" هنا تدخل بطبيعة الحال في خانة المضحكات- المبكيات. وقد نجح الكاتب في جعل أكثر المواقف إضحاكاً هي أكثرها قابلية للإبكاء أيضاً. فمن ألمانيا إلى إيسلندا، وصولاً إلى اليونان وإيرلندا، تمكن هذا الصحفي الأميركي المتمرس، 52 سنة، من إعادة اكتشاف عالمثالثية القارة الأوروبية، غير المعلنة. وهي عالمثالثية لم تفعل أزمة 2008 المالية الطاحنة شيئاً سوى تسليط الأضواء الكاشفة عليها. وتبدأ استطلاعات الكاتب الاستقصائية، الذي كان ذات يوم مستثمراً في بنك "سالمون براذرز" وتحول فيما بعد إلى صحفي مهتم بالشؤون المالية، من جمهورية إيسلندا، ليرصد كيف تحول هناك صيادون بسطاء، بقدرة قادر، إلى مسيري بنوك! ولكن عندما انهار البنك الإيسلندي الأول، وجد سكان الجزيرة الثلاثمائة ألف أنفسهم مسؤولين عن 100 مليار دولار من الخسائر، وهو ما يعني عبء 330 ألف دولار لكل ساكن. والمؤسف أن هذه الكارثة، التي تفوق الخيال، لم تكن أبداً مفاجئة، فقد حذر تقرير مالي دانماركي سنة 2006 بعبارات وقرائن واضحة، من أن النظام المالي الإيسلندي منذور للوقوع المجلجل في براثن الانهيار، في الأمد القريب. ولكن الطمع والجشع يعميان الأبصار. وذات الشيء يشبه منشأ التراجيديا المالية الإغريقية أيضاً، حيث تزاوجت النظم المالية الخاطئة مع عدم الشفافية والفساد لتفريخ فصول المحنة اليونانية. وتكاد تكون المحنة الإيرلندية نسخة طبق الأصل من نظيرتها الإيسلندية، مع تداعيات اجتماعية كارثية، حيث تضرب البطالة الآن بنسبة 14 في المئة، في حين لم تكن تتجاوز 4 في المئة في سنة 2006. وكما نعلم جميعاً فليس المأزق خاصاً بهذه الدول وحدها، وإنما هو مأزق أوروبي عام، لا تختلف فيه دولة أوروبية عن أخرى إلا من حيث الدرجة، أما من حيث النوع، فالكل في الهواء سواء. حسن ولد المختار -------- الكتاب: أوروبا: رحلة في العالم الثالث الجديد المؤلف: ميكاييل لويس الناشر: سوناتين تاريخ النشر: 2012