في ثنايا أدبيات التراث مفاهيم بحاجة إلى إعادة نظر وخاصة عندما تخرج تطبيقاتها عن المعتاد في حياة الشعوب، فشيوع مفهوم في التربية والتعليم بين الشيخ وتلميذه في أوساط بعض التيارات الدينية المتشددة وفق أسلوب غسل الميت، بمعنى أن يتمثل هذا التلميذ في تلقيه العلم وضع الميت بين يدي المغسل الذي لا يعترض على شيء ولا يحق له اختيار مغسله فضلاً عن الاحتجاج على طريقة غسله مع أن الذي يغسّل دماغه حي، فهل يساوى هذا الحي بالميت في أحكام أو آداب التعليم؟ هذه حالة تنبئ عن بروز بذور التطرف والتشدد والتزمت منذ السنوات الأولى لعملية التربية والتعليم بين أيدي "مشايخ" تهال عليهم القدسية المصطنعة، فيغتر الشباب الغر بهم من حيث لا يشعرون، فيمثلون امتداداً لنزعة من العنت والصلف تعاني منها اليوم الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية والغربية كذلك. وهي حالة لا تعكس إلا ظاهرة بناء لفكر منغلق لا يسمع ولا يطيع إلا لفرد واحد كطاعة الأموات لدافنيهم، وإلا فإن في التراث أيضاً نماذج تنم عن حرية الفكر في حركته فلو أردنا مثالاً لذلك وفق نظرية الشيخ والتلميذ، فإن الإمام أبا حامد الغزالي يعد نموذجاً لم يتوان عن دفن شيخه علمياً وهو حي وذلك عندما ألف سفره الشهير "إحياء علوم الدين"، وعرضه على شيخه الجويني فعلق عليه قائلاً: "دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى أموت"؟ في دلالة على تفوق التلميذ على شيخه دون أن يكون لذلك أثر سلبي في تبادل الحب والاحترام بين الأستاذ والطالب المتفوق عليه. سئل أحد مشايخ العلم المعاصرين عن حكم الإسلام في مس الأطفال الصغار المصحف بلا وضوء، فلم يجب على السؤال مباشرة بل ذهب بعيداً إلى أنه يجب أن نربي أطفالنا على عدم مس المصحف بدون طهارة، واسترسل في ذلك وكأن الأمة لا تعرف كيفية تربية أبنائها على القيم الإسلامية الرصينة. فإذا رجعنا إلى أصل الموضوع ووجدنا أن الكبار يعفون من الوضوء في مس المصحف في حالات التعلم والتعليم، هذا عند من حرم المس مع وجود الجواز بإطلاق، فلم التشدد مع الأطفال الذين لم يكلفوا بعد بالصلاة والصيام ولا أي شعيرة من الإسلام التزامهم بالوضوء إذا ما أرادوا مس المصحف بدعوى التربية، وهذا النَّفس الذي يلقي بظلال من التزمت المبكر لدى الأطفال قبل وصولهم إلى سن الرشد. ترى لو استمر هذا الحال، ألا يمكن أن تكون مخرجات هذا الطرح تطرفاً في التعامل مع من لا يرى ما رآه ذلك الشيخ الذي يوجه حديثه لعامة الناس. ويتعامل شريحة من دعاة التشدد باسم تربية النشء على الآداب الإسلامية، مع الآخرين على أساس من "الإمعية" و"التبعية" لفكر معين على حساب "الاستقلالية" التي تجعل في الإنسان مساحة من حرية الحركة فيما يختار من آراء فقهية فيها من "البحبوحة" الشيء الكثير، فلم إذن إصرار بعض الخلق على التضييق على الناس فيما وسعه الخالق على خلقه، وخاصة وفق مفهوم "كل ميسر لما خلق له"، فالتعسير هنا لا ينبغي إقراره ولا التعامل معه لأنه جاء في غير مكانه وزمانه لأن الإسلام الشماعة التي يعلق عليها البعض تشدده وتعنته، هو الدين الذي يراعي تغير الأزمنة والأمكنة كجزء أصيل من تنزيل أحكامه على أفراد المجتمع. فطريقة التعلم وفق نظرية التعامل مع الأموات، أمر يثير الاستغراب والاستهجان، فالفكر السليم لا ينمو ولا يرتقي بالبشرية وفق هذا الفهم العقيم لتعاليم الدين.