نجح فريق من العلماء في جنوب إفريقيا في تحقيق اختراق في علاج ميكروب السل، يبشر ببدء ثورة جديدة في مكافحة هذا المرض اللعين. فمن خلال المزج بين ثلاثة عقاقير، نجح هذا الفريق في قتل أكثر من 99 في المئة من البكتيريا المسببة للمرض، في غضون أسبوعين من بدء العلاج. والمذهل أن هذا الأسلوب العلاجي الجديد كان فعالاً في الحالات المصابة بنوع الميكروب المقاوم للعقاقير المتوفرة حالياً، بنفس درجة فعاليته ضد أنواع الميكروب غير المقاومة. والسل مرض مُعدٍ، وقاتل في كثير من الأحوال، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا يصيب غالباً الرئتين، وإن كان يمكنه إصابة أجزاء أخرى من الجسم. وتقع العدوى من خلال الرذاذ الناتج عن سعال، أو عطاس، أو بصق الشخص المصاب بالحالة النشطة من المرض، حيث يتسبب المريض الواحد في انتقال الميكروب إلى ما بين عشرة إلى خمسة عشر شخصاً آخر سنوياً. وقد شهد التاريخ الدموي للإنسان مع ميكروب السل تغيراً جذرياً، مع اكتشاف المضادات الحيوية، وبالتحديد عقار "الستربتوميسين"، وهو الاكتشاف الذي ولد آمالاً كبيرة في أن البشرية ربما سيكتب لها أخيراً الانتصار، في معركتها المصيرية مع هذا المرض اللعين. ومما زاد من هذه الآمال حدوث انخفاض هائل في حالات السل مع انتشار استخدام "الستربتوميسين". غير أن هذه الآمال سرعان ما تلاشت مع ظهور أنواع من الميكروب مقاومة للمضادات الحيوية، أدت إلى عكس الوضع، وتسببت في تزايد مطرد في عدد المرضى مرة أخرى. وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية في عام 1993 إلى الإعلان عن تحول السل إلى طارئ عالمي، في سابقة هي الأولى من نوعها. ويمكن تقسيم قدرة ميكروب السل حسب مقاومة العقاقير إلى ثلاثة أنواع رئيسية: النوع الأول المقاوم لعدة عقاقير، والثاني المقاوم لغالبية العقاقير، والثالث المقاوم لجميع العقاقير. ومدى انتشار هذه الأنواع أظهره مسح أجري عام 1997 وشمل 35 بلداً، حيث تبين في أكثر من ثلث البلدان المتضمنة في المسح، أن السل المقاوم للعقاقير شكل نسبة تزيد عن 2 في المئة من جميع الحالات، مع تمتع دول الاتحاد السوفييتي السابق، ودول بحر البلطيق، والأرجنتين، والهند، والصين، بأعلى نسبة من حالات السل المقاوم للعقاقير، نتيجة لضعف أو فشل برامج المكافحة الوطنية. وإن كان هذا الوضع المؤسف بدأ ينتشر في العديد من دول العالم، بما في ذلك الدول الغربية الغنية، مثل الولايات المتحدة، وبالتحديد مدينة نيويورك، التي تشهد تزايداً مستمراً في حالات الإصابة بالسل المقاوم للعقاقير، بداية منذ عقد التسعينيات، بعد قيام إدارة الرئيس الأميركي الأسبق "رونالد ريجان" بتفكيك الرعاية الصحية العامة. ولا يقتصر تزايد انتشار السل على الأنواع المقاومة للعقاقير، أو على الدول النامية والفقيرة، حيث أعلنت مثلًا وكالة الحماية الصحية البريطانية (Health Protection Agency) نهاية شهر مارس الماضي، أن عدد حالات السل الجديدة في العاصمة البريطانية قد ارتفع بنسبة 8 في المئة ليصل إلى 3,588 حالة عام 2011، مع تزايد عدد الحالات على مستوى بريطانيا كلها بنسبة 5 في المئة، لتصل إلى 9,042 في نفس الفترة الزمنية. وهذه الأرقام والإصابات، وقعت في واحدة من أغنى دول العالم، وتحت عين ونظر واحد من أفضل نظم الرعاية الصحية الوطنية المجانية. ويعتقد كثيرون خطأ أن أنواع ميكروب السل، العادي منه أو المقاوم للعقاقير، هي مشكلة صحية بعيدة عن بلادهم ومواطنهم، يعزلهم عنها البعد الجغرافي. وخطأ هذا الاعتقاد ناتج عن تجاهل تأثير الزيادة الهائلة والمترافقة بالكثير من اليسر والسرعة، في حركة البشر بين الدول والمناطق والقارات الآن، ضمن ما يعرف بظاهرة العولمة. فمنذ الربع الأخير من القرن العشرين، شهدت ظاهرة العولمة تزايداً مطرداً في مدى انتشارها، وفي عمق تأثيراتها. وهذه التأثيرات شملت العديد من جوانب الحياة الإنسانية، مثل الجوانب الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، بالإضافة إلى تأثيرها على معدلات انتقال وانتشار الأمراض، وعلى مشاكل الصحة العامة للدول المختلفة. وهو التأثير الذي يتضح من أهمية الدور الذي لعبته العولمة مؤخراً في انتشار مجموعة من الأمراض المعدية، وتحول بعضها إلى درجة الأوبئة أو إلى درجة الجائحة، كما حدث مع فيروس إنفلونزا الخنازير ومن قبله فيروس إنفلونزا الطيور. وهو ما يجعل تواجد هذه الأعداد الهائلة من المصابين بالميكروب المتعدد المقاومة، وفائق المقاومة، خطراً غير بعيد كما قد يعتقد كثيرون. وإن كان نجاح علماء جنوب إفريقيا مؤخراً في تطبيق النظام العلاجي الجديد، ومدى فعالية هذا العلاج -إذا ما ثبت بالدراسات اللاحقة- ربما يكون نقطة تحول رئيسية، وثورة علمية بجميع المقاييس، في رحلة الجنس البشري وصراعه التاريخي الممتد لآلاف السنين مع ميكروب السل. فالسل يصيب حالياً واحداً من كل ثلاثة من البشر، منهم حوالي 13,7 مليون حالة نشطه مزمنة، مع وقوع 8,8 مليون إصابة جديده سنوياً، ووفاة ما يقرب من 1,5 مليون بسبب المرض كل عام، مما يمنح السل المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات من الأمراض المعدية، ولا يسبقه على هذه القائمة إلا فيروس الأيدز. ومثل هذا الثمن الإنساني الفادح، وما يرافقه من تكلفة اقتصادية هائلة، يحتمل أن يتحول إلى مجرد حقائق تاريخية، إذا ما ثبت وكتب النجاح للجهود الأخيرة لعلماء جنوب أفريقيا في هذا المجال.