نستطيع أن نقرر بكل موضوعية وبناء على مسؤوليتنا كباحثين في العلوم الاجتماعية، أن مصر تشهد في الوقت الراهن موجة متسارعة من الانهيار الاجتماعي غير المسبوق! ولكي لا يبدو حديثنا متسماً بالمبالغة سألجأ إلى توثيق المؤشرات الكمية الكيفية على هذا الانهيار الخطير الذي يشمل القيم الأساسية للمجتمع، وبنية المؤسسات الحاكمة، وتوجهات القيادات العمالية، وسلوك الجماهير بكل فئاتها، وذلك كما ورد في تحقيق مهم لجريدة "الأهرام" نشر في عدد الجمعة الصادر في 20 يوليو 2012 تحت عنوان "المحافظات ترفع شعار الإضراب والاعتصام". وقد بدأ التحقيق بهذه العبارات الدالة "لا صوت يعلو فوق صوت الاعتصامات والإصلاحات.. هذا هو الشعار المرفوع في مختلف محافظات مصر التي تسودها نزعة إغلاق الطرق البرية والسكك الحديدية احتجاجاً على عدم الحصول على العلاوات والحوافز وزيادة الرواتب والفساد بالشركات وانقطاع الكهرباء ومياه الشرب وعدم التصدي للبلطجية وتثبيت العمالة المؤقتة". ومقدمة التحقيق تشير في الواقع إلى ظواهر بالغة الخطورة أخطرها جميعاً قطع الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية من قبل بعض الموظفين للمطالبة بزيادة الحوافز ورفع المرتبات، أو من قبل بعض المواطنين احتجاجاً على نقص مياه الشرب أو انقطاع الكهرباء. وفي تقديرنا أنه لابد من سن تشريع على وجه السرعة يقرر المحاكمات الجنائية العاجلة لمن يقطع الطرق ويعطل مصالح الناس، مع توقيع عقوبات رادعة على المخالفين، لأنه إن استشرت هذه الظاهرة فمعنى ذلك سقوط الدولة بالمعنى الفعلي للكلمة، ووقوعها في يد مجموعات من البلطجية الذين يمارسون إرهاب المجتمع، حتى لو لبسوا رداء الثوار أو رفعوا شعارات تتعلق بحقوقهم المهضومة. ومسؤولية الدولة هنا أساسية، ونحن لا نتحدث عن رئيس الجمهورية المنتخب، ولا عن جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا عن "حزب النور" السلفي، ولا غيرهما من الأحزاب السياسية، نحن نتحدث عن "الدولة المصرية" بمؤسساتها الراسخة الحريصة على الحفاظ على الأمن القومي وعلى السلام الاجتماعي في الوقت نفسه، وفي مقدمة هذه المؤسسات القوات المسلحة المصرية تحت قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ونحن ضد الشعارات الغوغائية التي رفعتها ائتلافات ثورية متعددة والتي تقول "يسقط حكم العسكر" ونقول لهؤلاء الناشطين السياسيين أصحاب المصالح الحزبية الضيقة، ودعاة الشهرة الإعلانية الكاذبة، ورافعي أعلام الثورة بغير حق، لو سقطت الدولة فلن يحكم مصر سوى مجموعات متنوعة من الإرهابيين السابقين والحاليين والبلطجية، الذين سينقضون على نسيج المجتمع المصري نهشاً وتمزيقاً بدون مراعاة للحريات، ولا احترام للمنشآت العامة والخاصة. وأخطر من كل ذلك لو سقطت الدولة ستكون بلدنا نهباً مستباحاً لأعدائنا المتربصين بنا منذ سنوات بعيدة، والذين يريدون أن يقضوا على مصر الموحدة القوية القادرة على ردع أي عدوان، وأن يلغوا من الوجود معادلة العيش المشترك التي أبدعها المصريون عبر تاريخهم الطويل في إطار الاحترام الفعلي لقواعد المواطنة التي تمت ممارستها في الواقع بغير رفع الشعارات الدالة عليها، والتي يكثر الحديث عنها هذه الأيام، وكأنها اختراع جديد لم يسبق للشعب المصري أن مارسه من قبل. ولو رجعنا لمؤشرات الانهيار الاجتماعي لوجدنا في تحقيق "الأهرام" ما يلي "شهدت مدينة شبين القناطر أحداثاً مؤسفة حيث قطع أهالي قرية طحانوب بشبين القناطر خط السكك الحديدية وأشعلوا إطارات الكاوتشوك ووقفت حركة القطارات وكذا حركة السيارات لمدة 3 ساعات اعتراضاً على قيام 5 مسجلين خطرين بخطف أحد أفراد القرية والاعتداء عليه بالضرب وعدم قبض أجهزة الأمن عليهم". ماذا نفهم من هذا الخبر؟ انفلات أمني وبلطجة واحتجاج غوغائي على غياب الأمن، اتخذ شكل قطع الطرق وخطوط السكك الحديدية كرد فعل لحادثة جنائية فردية. هل هناك دليل على انهيار مؤسسات الدولة الأمنية والتنفيذية والقانونية أبلغ من ذلك؟ ويضيف التحقيق أنه في كفر الشيخ بدأ العاملون بمعظم مكاتب التوثيق بالشهر العقاري إضراباً مفتوحاً عن العمل للمطالبة بالمساواة في جميع المزايا والمخصصات المالية مع زملائهم من الخبراء والأطباء الشرعيين. ولنتأمل في هذا الاتجاه الفوضوي الذي أخذ يتصاعد في عديد من القطاعات تحت شعار "مفيش حد أحسن من حد"، وهكذا يتساوى الموظف الإداري مع الخبير مع الطبيب الشرعي، بغض النظر عن الفروق النوعية في التأهيل والتدريب والخبرة! وفي نفس السياق قرأت خبراً مؤسفاً يقول إن موظفي جامعة سوهاج أضربوا عن العمل مطالبين بأن تزيد مرتباتهم كما زيدت مرتبات أساتذة الجامعة، وليس ذلك فحسب بل إنهم قطعوا طريق كوبري أخميم على النيل. ألا يعد هذا الإضراب وأمثاله هزلاً في مجال الجد؟ أساتذة الجامعة الذين يمرون بمراحل بالغة الصعوبة في التأهيل والترقية، التي تعتمد على نشر البحوث العلمية الموثقة، والذين ظلموا ظلماً هائلاً في السنين السابقة، حين يحصلون على حقوقهم المهدرة يطالب الموظفون الذين لا يزيد تعلمهم عن الثانوية العامة أو الليسانس بالمساواة المالية معهم؟ وإذا انتقلنا إلى الإضرابات العمالية سنجد عجباً فيما يتعلق بارتفاع سقف المطالب التي يرفعها عمال المحلة الكبرى -على سبيل المثال- فهم لا يطالبون فقط بزيادة غير معقولة وغير مبررة في الحوافز والبدلات والأرباح، وإنما يطالبون بإقالة مدير الشركة القابضة، وتطهير الشركة وإعادة هيكلتها! والمؤسف أن بعض الأحزاب السياسية وقادتها تضامنوا مع العمال من باب الانتهازية السياسية بغير أي مناقشة نقدية مع النقابات العمالية ولا مع اتحاد العمال ولا مع وزارة العمل. ولو تركنا هذه المظاهرات والاحتجاجات الفئوية ونظرنا إلى المظاهرات السياسية لاكتشفنا أن جماعة "الإخوان المسلمين" في صراعها ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصمم على تحقيق التوازن بين سلطات الدولة حتى لا تتغول الجماعة وتهيمن بشكل غير مشروع عليها جميعاً، نزلت إلى ميدان التحرير رافعة شعار "شرعية الميدان"، ومعها أنصار "حازم لازم" الذين هم في الواقع زوائد سياسية لا وظيفة لها إلا إحداث الفوضى في المجتمع، وذلك كله للاعتراض على أحكام المحكمة الدستورية العليا. وفي هذا السياق لابد لي من أن أشير إلى مقال سبق لي أن نشرته في "الأهرام" بعنوان "من إسقاط النظام إلى هدم الدولة إلى تفتيت المجتمع"، حيث حذرت فيه من محاولات عديد من القوى السياسية هدم الدولة من خلال الهجوم على مؤسساتها الراسخة وهي الشرطة والقوات المسلحة والقضاء. لقد تم ضرب الشرطة، وفشلت محاولات إسقاط القوات المسلحة، كما فشلت المحاولات التخريبية لإسقاط القضاء. وبعبارة موجزة فإن مصر تواجه خطر الانهيار الاجتماعي الشامل، وليس هناك من سبيل لوقفه سوى التطبيق الدقيق للقانون، حتى لو تم ذلك بإنشاء محاكم استثنائية تمارس المحاكمات العاجلة لمن يقطع الطرق ويمارس البلطجة باسم الثورة، وتنظيم حق التظاهر والاعتصام، الذي أصبح "سداح مداح" باسم الثورة مع أنه أصبح مجالاً للفوضى العارمة!