عاليه مصطفينا، لاعبة جمباز، عمرها 17 عاماً، ووزنها 48 كيلوجراماً قد تحدد هذا الأسبوع خلال دقائق وربما ثوان مكانة أولمبياد لندن في تاريخ الدورات الأولمبية العالمية. سنعرف ذلك من صيحات انبهار جمهور الأولمبياد، الذي يتابع مع 4 مليارات مشاهد عبر الفضائيات وثبة عالية في الحلبة، وتمرجحها الدوّار بعَلَقتيْ الجمباز، وقفزها وجريها على العارضة، والشقلبات المستحيلة، وبهجة الطفلة في الإيقاع الراقص الختامي الذي تهتف له القلوب. و"في لعبنا نكشِفُ نوع الناس الذين هم نحن"، حسب الشاعر الإغريقي أوفيد الذي شهد ميلاد الأولمبياد قبل نحو ألفي عام. وستكشف عاليه عن نوع عائلتها الرياضية الروسية المسلمة، التي تضم شقيقتها الصغرى، نايله والتي نالت الفضية في بطولة الجمباز لحوض المحيط الهادي عام 2008، ووالدها فرحات مصطافينا الذي فاز، وهو مصاب برضوض في ركبته بالبرونزية في البطولة الأوروبية للمصارعة الرومانية في مونتريال ربيع العام الماضي. واقتحمت عاليه وهي في عمر 15 عاماً كالعاصفة سباقات البطولة العالمية في روتردام عام 2010 ونالت ميداليتين ذهبيتين، وأعقبتهما مباشرة بذهبية البطولة الأوروبية في برمنجهام. واليوم تُعلِّق روسيا عليها الآمال لاستعادة تاج بطولة الجمباز النسائي الذي فقدته منذ نهاية الحقبة السوفييتية. ودخول المرأة أول مرة مباريات الجمباز في خمسينيات القرن الماضي أضاء الرياضة بجمال الفن، وكل ما تراه العين جميلاً يراه القلب جميلاً. فالجمباز الذي يعني باليونانية "الفن العاري"، كان لعبة ذكورية لإظهار قوة العضلات، والقدرة على الاحتمال، وعندما حلّقت اللاعبة السوفييتية لاريسا لاتينينا على إيقاعات باليه رقصة البجعة في ملبورن عام 1956 تغير الأولمبياد إلى الأبد. وأعقبتها التشيكية فيرا تشاسلافسكا في أولمبياد مكسيكوسيتي عام 1968، والبيلاروسية أولجا كوربيت في أولمبياد ميونيخ 1972، والرومانية ناديا كومانشي التي حققت خلال 21 ثانية في أولمبياد مونتريال 1976 ما لم يحققه قبلها ذكرٌ أو أنثى، لحصولها، وعمرها 14 عاماً، على الدرجة الكاملة 10 من 10، والفوز بتسع ميداليات، خمس منها ذهبية. والعالم اليوم على أعتاب لحظة فريدة في التاريخ يرتبط فيها أبدع أداء نسائي في الأولمبياد بامرأتين مسلمتين، إحداهما عراقية والثانية روسية. المسبح الأولمبي الذي صممته زهاء حديد موجة قافزة فوق سطح الأرض مساحتها 24 ألف قدم، تتماهى بها زهاء والماء، كما تتماهى راقصة الباليه والبجعات؛ فهي البجعة التي تقلدها البجعات. وإذا كنا نرى جمال المرأة الناضجة، فسحر المرأة الصبية هو الذي يرانا في أداء عاليه مصطفينا، الذي قد يكشف قبح أكثر الدورات الرياضية الأولمبية تقنية ومالاً وسياسة وعسكرة وفساداً وتجسساً في التاريخ. عدد زعماء الدول والمال الذين يحضرون الأولمبياد أكثر من 200، وبينهم رئيسا الصين والبرازيل. وإذا كانت المخاطر الأمنية التي تهدد أولمبياد لندن حقيقية فنتوقع كارثة، وإذا كانت من قبيل الدعاية فالكارثة قد وقعت فعلاً. كلفة الأولمبياد بلغت حتى الآن نحو 15 مليار دولار، وتقترب النفقات الأمنية للأولمبياد من مليار دولار، والأولمبياد الذي يرمز إلى الجمال والصداقة بين الشعوب تحول إلى قاعدة عسكرية تحيطها أسوار مكهربة طولها 18 كيلومتراً، وتحرسها قوات عسكرية عددها أكثر من 20 ألفاً، أي نحو ضعفي عدد القوات البريطانية في أفغانستان، إضافة إلى الشرطة، والأمن الخاص، و55 فرقة كلاب بوليسية، وبطاريات دفاع جوي فوق سطوح البنايات في ستة مواقع سكنية محيطة بالأولمبياد، وهي مخولة بإسقاط أي طائرة غير مرخص لها بالتحليق. هذا مرور الأولمبياد على "بلد اعتاد غزو واحتلال بلدان الآخرين"، حسب شيمس مايلن محرر الرأي في صحيفة "الجارديان". "وإذا فسد الملح فبماذا سنملحه؟"، يسألُ المسيح عليه السلام. وكالات تجسس دولية متخصصة بالسباقات الرياضية تجمع المعلومات عن اللاعبين ومعداتهم وتمارينهم، وتوظف أموالا طائلة للتجسس على المنافسين، و"لعب الألعاب" قبل السباق، الذي استبقته بجمع معلومات عن تقنيات تبريد عضلات اللاعبين، وتجهيزات زوارق السباق، وقامت بعمليات تسلل ليلية لفحص وتصوير معدات المنافسين. وأقام الأميركيون نموذجاً طبق الأصل لملاعب أولمبياد لندن استخدموه في تدريب لاعبيهم. وأطلقت كندا عام 2005 مبادرة "سري للغاية" رصدت لها مليوني دولار سنوياً أنفقتها على 55 مشروعاً ساهم فيها 18 معهداً. ولا يصرح الكنديون بعدد الميداليات التي جلبتها مبادرة "سري للغاية". أوردت التفاصيل "نيويورك تايمز" في تقرير ذكرت فيه أن مسؤول وكالة التجسس الرياضي الفرنسية يُدعى "جيمس بوند الفرنسي"، ونقلت حديثه عن دور التجسس في حصول فرنسا على 41 ميدالية في "دورة أولمبياد" بكين عام 2008، التي أطلق عليها اسم "دورة الألعاب الجاسوسية". وادّعى آنذاك "الاتحاد الأولمبي البريطاني" سرقة اثنتين من قواعد معلوماته، واستولى البوليس الصيني على معدات الرصد الجوية التي يستخدمها فريق سباق الزوارق البريطاني. وظهر أن أفضل مستودع للمعلومات التجسسية هو الإنترنت، وخصصت فرنسا 121 ألف دولار لتطوير آلة بحث في الإنترنت لرصد التقارير الخبرية، والوثائق الحكومية، ومواقع الإنترنت، وأرشيفات مختلف الدول، ووظفت مراقبين اثنين مهمتهما تنظيم العمليات، وتصنيف المعلومات، وطلبت من اتحاداتها استجواب مدربي الفرق الرياضية والحكام عن المنافسين عند عودتهم من مباريات خارجية. ويعتبر المسؤول الفرنسي كل ذلك تطويراً لطرق التدريب التقليدية "أركض أقفز إرفعْ استرحْ"، وهي برأيه "أمور تقوم بها دول النخبة الرياضية وتطلق عليها أسماء مختلفة". فالفرنسيون يسمونها "استخبارات"، وغيرهم يسميها بحث وتطوير، وجميعها، حسب المسؤول الفرنسي تدل على شيء واحد، وهو أن "التجسس الرياضي واقع هذه الأيام". وقد بلغ "حداً من السخف يصور فيه منافسونا تصويرنا لهم وهم يصورونا" حسب صحيفة "الديلي ميل". جمال وقبح الدورة الأولمبية العالمية ما بين إبداع زهاء حديد وعاليه مصطفينا وخراقة مسؤولي دول النخبة الرياضية. فما الرياضة في أولمبياد يشارك فيه 40 ألف متسابق بينهم 3 آلاف مسلم، ينافسون أقلية من لاعبي النخبة المجهزين بمقويات ومنشطات تكنولوجية، والمسلحين بأسرار منافسيهم، وبملابس وخوذ مصممة خصيصاً على مقاسهم، وتوفر لهم الانسيابية الهوائية، وتطوير دراجات مغطاة بسطوح نانوية تمنع تراكم المياه، والطين، ووضع كاميرات في رؤوس الملاكمين لتصوير حركات المنافسين واستخدامها لوضع خطط التغلب عليهم؟... يورد هذه المعلومات تقرير "معهد الهندسة الآلية" البريطاني، ويقرُّ بأن "المنافسات الأولمبية لم تعد تحدد من الأسرع فحسب، بل من يملك معدات أذكى". وماذا يبقى في نهاية الشوط من المنافسة الرياضية سوى ما تقول عنه النكتة الإنجليزية "سَوقُ الماشية هو السباق الوحيد الذي لا يمكنك التلاعب به. فعليك آنذاك التحدث إلى الثيران والبقر، ولن تفهمك".