يعتمد وجود الطائفية على إدامة إنتاجها، كي لا تتقادم الأيام وينسى ما حصل بين أقوام تساوت قبورهم في قدمها. ليأخذ الأحفاد يتوارثونها ضغائن تحرق الصدور وتشل العقول؟! يقول إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري) في استنهاض حوادث التاريخ: "أثارت أحقاداً بين أقوامٍ، وحركت نفوسهم، والتهبت فيها نيران الغضب …" (رسالة الموسيقى). ويعذرني القارئ اللبيب عن تكرار الاستشهاد بهذه الجماعة الحاذقة وبغيرها من مفاصل الماضي، فمنه ما يبرر الكراهية ويحييها، ومنه ما يشد عضد طالبي التسامح والسلام الاجتماعي بعمارة الدنيا والدين، ولنا تسمية هذا الشطر من الماضي بـ"التراث المحجوب"، لأنه ظل منزوياً لا يقارع الأصوات الهائجة المائجة، فالربح والتجارة في أدلجة الماضي لا في الهادئ من الكلام، وما سلف هو الآخر "حمال ذو وجوه..." (نهج البلاغة). عندما يقرأ التاريخ، بعيداً عما تكلس وتحول إلى عقائد، نجد فيه فسحاً تساعد على التعايش بين المختلفين، فتاريخنا ليس كله مواجهات، ففيه ما يطمأن من المؤاخاة الكثير. فمن أمثلة الاختلاف بين يقين العقيدة وشك التاريخ، أن لدى البعض تلعب شخصية ابن سبأ (ليس له وجود كي أحدد له تاريخ وفاة)، ذلك المسلم الجديد القادم من اليمن، لعباً في التاريخ، يُحارش بين رموز الإسلام فيتنازعون ويتحاربون. لكن لو تخلى من أراد لابن سبأ أن يكون إبليس الأبالسة، وأصلاً لطائفة مسلمة معروفة، لوجد شأنه شأن مجنون، كل غزل بليلى نسب إليه (كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها 1933)، وكل مجون نسب لأبي نواس (ت 198هـ) (ابن المعتز، طبقات الشعراء). كذلك إذا قرأنا التاريخ بروية في علاقة الخلفاء الراشدين بعضهم بعضاً لخفت المتاجرة بخصوماتهم، وتراجع المنطق الطائفي. مثلما نجد في قراءة تاريخ العباسيين مع أولاد عمومتهم العلويين ما يقلل من التأثر، على أن ترسم الحوادث بمنطقياتها. فالتاريخ يحدثنا عن صلة جيدة بين الإمام الصادق (ت 148 هـ) والخليفة المنصور (ت 158هـ)، وأن الإمام رفض الثورة، ورفض تسلم راية الخلافة عند سقوط الأمويين (ابن الطقطقي، الآداب السلطانية)، زهداً في السلطة، فعلى حد قول الشهرستاني (ت 548 هـ) فيه: "من غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط" (الملل والنحل). كذلك لو نتعرف على قضية نجله الإمام الكاظم (ت 183هـ)، كيف حدثت؟ وكيف كانت علاقته مع الرشيد (ت 193هـ) من قبل؟ وأين دفن؟ سنجدها تختلف عن العقيدة التي تجول في الرؤوس، وظلت تتداول ليس ضد الرشيد، فقد باد عصره، بل صارت متوارثة بين الأجيال بعيداً عن فهم طبيعة السلطة آنذاك، ومفهوم البيعة كقيد في عنق المبايع، فمن لم يبايع أو يخرج عن البيعة يعد محارباً، ولو كان ابن الخليفة، فلا نحاكم الوقائع خارج أزمانها لأن في ذلك تعسفاً. وهنا استعين في هذه القضية بالذات، بمصادر إذا لم تكن على نهج الكاظم فهي محايدة. أتى أبو فرج الأصفهاني (ت 356 هـ) على سبب سجن الإمام، بأن ابن أخيه الكبير إسماعيل (توفي نحو 142هـ) قابل الرشيد، وأبلغه أن الأموال تجبى إلى عمه موسى من المشرق والمغرب (مقاتل الطالبيين). وفي مصدر آخر قال له: "يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج، وأنت بالعراق يجبى لك الخراج..." (النوبختي، فرق الشيعة، حاشية السيد محمد صادق بحر العلوم). إلا أن المسعودي (ت 346 هـ)، يأتي بخبر إطلاق سراحه، لما قال الرشيد لرئيس شرطته: "أمض الساعة حتى تُطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالإذن في ذلك إليك" (مروج الذهب). بعدها يدفن الكاظم في المقبرة العباسية، أي المقبرة الملكية، حيث قبر عم الرشيد جعفر ووجهاء العباسيين الكبار. كذلك الحال بالنسبة إلى الإمام الرضا (ت 203 هـ)، فإنه كان الأقرب من الخليفة المأمون (ت 218 هـ)، حتى جعله ولي عهده، وثار العباسيون ببغداد، وصيروا عمه إبراهيم خليفةً (ت 224 هـ)، بل إن المأمون زوج ابنتيه للرضا وولده الجواد (ت 222 هـ)، و"أَلبس الناس الأخضر (لباس العلويين) مكان السواد (لباس العباسيين)، وكتب بذلك إلى الآفاق، وأُخذت البيعة للرضا، ودعي له على المنابر، وضُربت الدَّنانير والدراهم باسمه" (تاريخ اليعقوبي). هذا التاريخ، أما العقيدة فتقول: إن المأمون فعل ذلك حيلة كي يقتله، ولهذا تُقام المجالس حالياً في ذكرى وفاة الرضا سخطاً على المأمون، بينما التاريخ من مصدر موالٍ للرضا يقول: "حدثني... قال: رأيت المأمون يمشي في جنازة الرضا حاسراً في مبطنة بيضاء، وهو بين قائمتي النعش يقول: إلى من أروح بعدك يا أبا الحسن، وأقام عند قبره ثلاثة أيام" (تاريخ اليعقوبي). في ما تقدم نحن لا نبرر المظلوميات، مهما صغرت، لكن نحاول درء جز الرؤوس، وسفك الدماء، بتحويل ذلك التاريخ إلى عقائد مع أنها مضت مع أهلها. على المنوال نفسه، سمعت مفتي بلاده يشتم الدولة الفاطمية بمصر (358-567 هـ)، ويقول: إن الاحتفال بالمولد النبوي اختلقه المنحرفون الفاطميون، فصار كلامه عقيدة. لكن التاريخ يقول، ومن مصادر موالية لمذهب الشيخ: ابن الشعار الموصلي (654هـ)، وابن خلكان (ت 681هـ)، بأن الذي أبدع الاحتفال بالمولد النبوي هو حاكم أربيل مظفر الدين كوكبري (ت 630هـ) الشافعي، جاء في روايتهما: "انفرد بشيء لم يسبقه أمر إليه من الملوك الحاضرين والخلفاء المتقدمين، واختص به دونهم تبركاً بولادته عليه السلام، فإنه كان يأمر بنصب القباب من الخشب متصلة منظمة من الخانقاه التي تحت القلعة..." (قلائد الجمان ووفيات الأعيان). إنه غيض مِن فيض، فهناك حمولة مراكب مِن الروايات حمالات الأوجه، ليتها لا تستحيل إلى عقائد توجه الجموع، وتدير الرؤوس، "إلى غرض يقضونه وأداة"! إنما في التاريخ الوجهان، ما يمارس عقيدة ويحث على تأبيد النزاع، وما يخفف منها بقراءته كصفحات مضت! أقول: إن بين يقين العقيدة وشك التاريخ ما بين النار والماء. اليقين الذي قصده الشيخ علي الشرقي (ت 1964) في رباعيته "أيها البلبل في السجن": "إنني قد غدوتُ أنعم في الشَّكِ/ لأني منغَّصٌ باليقنِ" (الديوان)!