لماذا تمنى ويتمنى كثير من القادة الإسرائيليين أن يستيقظوا ذات صباح فيروا قطاع غزة وقد بلعه البحر بأكمله؟ ولماذا تتسارع الخطوات أحادية الجانب من قبل إسرائيل التي تعزز من فصل القطاع عن الجسم الفلسطيني وتكرس القطع الجغرافي عن الضفة الغربية؟ ولماذا كان تفكيك المستوطنات ونقل المستوطنين من هناك خطوة يمكن القيام بها كما حدث عام 2005؟ إسرائيل تدرك أن أكلاف إبقاء السيطرة الاحتلالية على القطاع أكثر بكثير من فصمه مباشرة، وأن ما تجنيه من خطوة الفصل يحقق مكاسب استراتيجية كبيرة لها. إذا أخرجت إسرائيل القطاع من المعادلة السياسية، فإنها تفصم الرافعة الأهم في النضال الوطني الفلسطيني خلال التاريخ الحديث والمفتوحة على مصر ثم العالم كله من ورائها. في القطاع تشكلت وتبلورت الأحزاب والتيارات السياسية الأهم في حقبة ما بعد قيام إسرائيل، من الشيوعيين، إلى القوميين، والوطنيين والإسلاميين، وفيه تظل تتبلور تيارات المقاومة والصراع ضد الاحتلال. إذا أخرجت إسرائيل القطاع من المعادلة السياسية، فإنها تقضي على ما تبقى من أي تكامل عضوي للقضية الوطنية، ويتحقق لها ترسيخ الاستفراد بالضفة الغربية وتوفير المناخ المناسب للمضي أكثر وأعمق في المشروع الاستيطاني المتوحش في القدس الشرقية والضفة الغربية. ويرتبط بذلك بطبيعة الحال إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة على أراضي 1967، والتي تتوافق عليها التيارات السياسية الفلسطينية جميعها. قطاع غزة هو الشريان الحيوي والقلب النابض لمثل تلك الدولة لأنه بوابتها على البحر والعالم. الضفة الغربية من دون قطاع غزة تغدو مخنوقة بين مطرقة إسرائيل وسندان المستوطنات. يُساق هذا الكلام، ومثيله كثير لا تتيح المساحة هنا تغطيته، على خلفية أخبار تقول إن "حماس" تدرس خيار إعلان قطاع غزة منطقة محررة من أراضي الدولة الفلسطينية المتوافق عليها، وذلك عبر الاتفاق مع مصر. ويقوم هذا الإعلان على أساس إنهاء الارتباطات التجارية مع إسرائيل بشكل أساسي واستبدالها بعلاقات تجارية مع مصر عبر معبر رفح، والانفصال كلياً عن إسرائيل. وتتشجع "حماس" على هذه الفكرة بسبب الوضع السياسي الجديد في مصر ووجود محمد مرسي في سدة الرئاسة. ربما يجد كثيرون في هذه الفكرة جاذبية خاصة تتمثل في التمكن من إعلان جزء من فلسطين التاريخية محرراً من الاحتلال الإسرائيلي، بيد أن المخاطر والشراك الكامنة في هذه الفكرة كبيرة وتحتاج إلى تفكير معمق وجماعي. أولاً وقبل كل شيء من الضروري استخدام خطاب واقعي يصف ما هو على الأرض وليس الرغبات والتمنيات. الشرط الأساسي لإعلان قطاع غزة منطقة محررة، وذهاباً مع هذا المنطق إلى آخره، يتمثل في تحرير بحر غزة من السيطرة الإسرائيلية واستطاعة الفلسطينيين التواصل مباشرة مع العالم من دون المرور بأي وسيط ثالث سواء أكان عدواً كإسرائيل، أو شقيقاً كمصر. هذا الشرط غير متحقق وينفي سمة "المحررة" التي ينطوي عليها الوصف. ثانياً، وتعاملًا مع السؤال الذي يقول "ماذا يستفيد الشعب الفلسطيني من إبقاء غزة تحت الاحتلال؟" فإن الرد البديهي هو بالطبع لا يستفيد الشعب الفلسطيني من بقاء غزة أو أي شبر من فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن تكملة الرد هي الأهم وهي لماذا يريد الاحتلال التخلص من غزة؟ لأن غزة هي الكلفة الأكبر والشوكة الأكثر إيلاماً، فإن تخلص منها يستطيع تكريس الاحتلال الناعم للضفة الغربية. ثالثاً: إعلان قطاع غزة منطقة محررة من طرف الفلسطينيين يعني إنهاءً لوضعها الدولي والقانوني كمنطقة محتلة. وينتج عن ذلك الإعلان بروز كيان ليس له سمة الدولة وغير معترف به قانونياً وسيكون شبيهاً بقبرص التركية التي لا تعترف بها سوى تركيا. مصر في حالة غزة سوف تكون الدولة الراعية لهذا الكيان، لكن هذا يترتب عليه أكثر من مسألة حساسة وخطيرة. أولها تحييد المقاومة تماماً، وهي قضية تقول "حماس" إنها تشكل عماد برنامجها السياسي. ففي حال نشأت منطقة "محررة" غير معترف بكونها واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي وتسيطر عليها "حماس"، فإن "حماس" نفسها سوف تضيق مساحات تحركها العسكري والمقاومي ضد إسرائيل أكثر مما هي ضيقة الآن. وهناك أكثر من سبب وراء ذلك أولها أن مسوغ المقاومة وهو مواجهة وطرد الاحتلال سوف يضعف إنْ لم ينتف. طبعاً سوف تجادل "حماس"، محقة، بأن بقية الأراضي الفلسطينية ما تزال محتلة وهي تقاوم لأجلها، لكن هذا التبرير لن يجد مكاناً له في الإعلام والسياسة الدولية آنذاك. وثانيها أن الدولة الراعية، مصر هنا، سوف تتحمل المسؤولية القانونية عن أي عمل عسكري يصدر عن "الكيان المحرر"، وعلى وجه التأكيد أن مصر في المدى القصير والمتوسط غير مستعدة لمثل هكذا تورط. كل هذا من ناحية مفهومية ونظرية، لكن هناك ناحية أخرى وهي عملية وواقعية خاصة بالمقاومة، ذلك أنه أثر بروز "الكيان المحرر" سوف تقل شهية "حماس" للمقاومة، وتنخرط أكثر وأكثر في التمكن والسيطرة على الشكل الجديد ومشكلاته. وفي حال فكرت في المقاومة وإطلاق صواريخ مثلًا فإن الانتقام الإسرائيلي سوف يكون أبشع مما عرفناه، لأن يده ستكون مطلقة بكونه يرد على اعتداء قادم "من خارج الحدود"، وليس على مقاومة في أرض خاضعة لاحتلاله، وسوف يلقى ذلك تفهماً دولياً أكبر مما هو عليه في الوضع الحالي. رابعاً، تنبني فكرة "المنطقة المحررة" بشكل أساسي على الفرصة التي أتاحها التغير السياسي الذي حدث في مصر وجاء بالإخوان المسلمين إلى سدة الحكم. ماذا سيحدث لو تغير الوضع في مصر بعد خمس سنوات وخسر "الإخوان" مركزهم القيادي؟ عندها قد ينتهي القطاع، الكيان المحرر، إلى حالة فريدة إذ لا هو منطقة محتلة من قبل إسرائيل وبالتالي لا تتحمل المسؤولية القانونية والاحتلالية، ولا هو كيان مستقل، ولا هو كيان مفتوح على العالم عن طريق البحر، أو عن طريق البر. خامساً، من شبه المؤكد أن خطوة أحادية كهذه سوف تعني تعزيز الانقسام والانفصال القائم حالياً، لأنه يتجه بغزة نحو معبر رفح عوض أن يتجه بها نحو معبر بيت حانون (إيرز)، عوض الاتجاه نحو مصر على غزة و"حماس" الاتجاه نحو الأرض الفلسطينية وتجييش عشرات الألوف يومياً للتظاهر على معبر "إيرز" بكونه يفصم الديموغرافيا الفلسطينية، مخالفاً القانون الدولي وحقوق الإنسان، ولأن الضفة الغربية وقطاع غزة كلاهما واقع تحت الاحتلال ومن مسؤولية هذا الاحتلال توفير حركة الناس. فتح معبر بيت حانون يجب أن يكون هو الأولوية، وهو البند الذي يتصدر كل المبادرات السياسية والمقاومة الشعبية وسوى ذلك وليس معبر رفح. ثم أخيراً يجب أن لا تستفرد "حماس" بالإعلان عن خطوة كهذه مهما بدت الإغراءات، وحتى لو كانت قناعاتها بها قوية. فهذا يجب أن يتم عبر توافق وطني ونقاش عام. والمفارقة أن ملفات المصالحة المتعثرة بين "فتح" و"حماس" مليئة بالشروط التي تفرض على الطرفين التوافق "الوطني" حتى على أشياء سخيفة وهامشية ثم فجأة يتطور اتجاه في غزة أو الضفة من الحجم الهائل والثقيل يريد أحد الطرفين الانفراد به والمضي غير عابئ بالآخر والآخرين كلهم.