في هذه المقالة سنعيش مع البروفيسور جيجوش دابليو كولودكو Grzegorg W. Kolodko وهو سياسي ومفكر كبير، وأحد المهندسين الرئيسيين للإصلاحات البولندية وخبير مرموق في شؤون السياسة والاقتصاد؛ وهو أيضاً صاحب العشرات من الكتب التي ترجمت إلى 25 لغة من لغات العالم. عندما كان نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للمالية (1994-1997) تمكن من قيادة بولندا لعضوية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ وعندما شغل نفس هذين المنصبين مرة أخرى في الفترة من 2002 إلى 2003، لعب دوراً كبيراً في انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي؛ وكولودكو" هذا هو مدير مركز الأبحاث الاقتصادية للتحول والتكامل والعولمة "كوزمنسكي"؛ وهو في الوقت نفسه عداء ماراثون ورحالة زار أكثر من 150 دولة... وقد ألف كتاباً كبير الدلالة كثير الفائدة سماه "حقائق وأخطاء وأكاذيب السياسة والاقتصاد في عالم متغير"؛ وتعمد هذا البروفيسور البولندي أن يخلو كتابه من الجداول والرسوم البيانية والخرائط كي يصبح أكثر جاذبية للقراء، وهو يخلو أيضاً من فهرس المراجع والمصادر التقليدية المرتبة هجائياً لأن كل المصادر مذكورة في الحواشي الختامية. حسب الخبير البولندي تفسر مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف علماء الاقتصاد ما يجري ويفسرونه. وأفضل هؤلاء العلماء يعرفون ما يحدث وبإمكانهم إقناعنا؛ لأن المشاكل تطرأ عندما: - يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا. - أو لا يعلمون، ولكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال. - أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا به. وفي الحالة الأولى لا يسعنا إلا أن نحاول مساعدتهم في توصيل الرسالة؛ وعلى رغم ظاهر الأمر، فليست تلك بالمهمة السهلة، فالجهود في هذا الاتجاه بحاجة إلى دعم المؤلفات والبرامج المعرفية، والتعليم ووسائل الإعلام المستقلة وغير ذلك. وفي الحالة الثانية، عندما لا يعلم هؤلاء الأشخاص كيف تجري الأمور فعلياً ومع ذلك يحاولون إقناعنا بمفهوم مهم، يكونون على خطأ بيِّن؛ ومن الضروري عندئذ أن نناقشهم بهدوء وأن نعير اهتمامنا للرأي الآخر، لأن كل شخص من الممكن أن يكون على خطأ. وفي الحالة الثالثة وهي الأسوأ أي عندما يتعمد الأشخاص نشر الأكاذيب في مجال السياسة -وهذا يحدث يومياً- لأن المهم عندهم هو النتائج لا الحقيقة. وتحاشي الحقيقة يصب أحياناً في مصلحة النتائج، وهذا هو السبب في نظر الاقتصادي البولندي في أن الصدق والكذب يستخدمان باعتبارهما وسيلتين مفيدتين في السياسة. وهذا يفسر السبب في وقوع الكثير من علماء الاقتصاد الذين دخلوا عالم السياسة في شرك الأكاذيب... ففي روسيا مثلاً كان الأمر سيكون بمنزلة انتحار سياسي لو كانت الحكومة اعترفت في عام 1992 بأن تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة سيفضي إلى سبع سنوات عجاف سينخفض خلالها الإنتاج إلى ما يتجاوز النصف، وأن قطاعاً عظيماً من السكان سيواجهون الإقصاء الاجتماعي. كما كان من غير المعقول أن تعلن الحكومة البولندية على الملأ عند طرح سياستها في مطلع عام 1989-1990 أن الدخل القومي سينخفض بنسبة 20 في المئة تقريباً خلال العامين التاليين، وأنه سيكون هناك ثلاثة ملايين عاطل عن العمل في غضون أربع سنوات. إن الشعب لم يكن ليقبل بسياسات كهذه؛ وقد أطلق بعض علماء الاقتصاد الأمناء تحذيرات، لكن طغى عليها ضجيج نظرائهم الأكثر خضوعاً وطاعة؛ وفي يومنا هذا، تقع نفس التضليلات الاقتصادية من طرف العديد من الحكومات التي عرفت مصيراً مأساوياً بسبب غيلان الشارع كما هو شأن اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال بل وحتى أقوى الدول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ففي الكثير من الأحيان يكذب المسؤولون الاقتصاديون داخل المجال السياسي الرسمي مع ساستهم، لأنهم يظنون أنهم إذا لم يفعلوا ذلك، سيثور عليهم الأولون والآخرون في رمشة عين؛ ولكن ذلك لم يطل إذ تغيرت حكومات اليونان وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا والقائمة ما زالت مرشحة للارتفاع. لقد كتب الكثير عن كيفية تضليل الناس بالعلم، وكيف يتمكنون من أن يصروا على الخطأ فترات طويلة واضعين ثقتهم في هراء وخزعبلات، ولكن نادراً ما كتب حول هذا الموضوع في مجال الاقتصاد. وأظن كتاب الخبير كولودكو واحداً من المراجع النادرة في هذا الباب؛ فالاقتصاد في نظره يسلك مساراً وسطاً بين الخيال كما تراه في الأفلام السينمائية؛ وبين الدقة الموجودة في العلوم البحتة وكلما اقترب علم الاقتصاد للدقة كان ذلك أحسن؛ والأفضل على الإطلاق هو الجمع بين دقة الرياضيات وتشويق الأفلام السينمائية. وقد نصح أحد الأصدقاء الخبير كولودكو بتأليف كتاب ضخم يحوي الكثير من المعادلات بحيث لا يفهم أي شخص أي شيء، فحفظ كولودكو هذه النصيحة القيمة وقرر أن يفعل العكس بألا يضمن كتابه أية معادلة وأن يكتب بحيث يفهم الجميع... وهو ما يعطي لكتابه هذا فرادة وقيمة فكرية قل نظيرهما. عندما زار ألبيرت أينشتاين الولايات المتحدة للمرة الثانية سنة 1931، قبل أن يستقر هناك لاحقاً بعد عام واحد، طلب أن ينال فرصة مقابلة رمز عظيم آخر من رموز القرن العشرين هو تشارلي شابلن. وبعد عرض لرائعته "أضواء المدينة" صفق الجمهور لكلا الرجلين العظيمين، وقال شابلن: "إنهم يحيونني لأنهم جميعاً يفهمونني، ويحيونك لأن أحداً منهم لا يفهمك"... وللحديث بقية.