تحت وقع صراع مسلح وسياسي وحضاري يشتعل الآن في سوريا، صراع ربما لم يرَ التاريخ العربي مثيلاً له، خصوصاً في كونه ذا بُعد سوري داخلي حاسم، تحت هذا الوقع الذي يجيء كالطوفان، أتت دعوتي من قِبل مركز دراسات استراتيجية في بيروت، للمشاركة في حلقة دراسية أكاديمية حول الرهان على الديمقراطية عربياً، وفي سبيل توسيع الحوار العلمي التاريخي حول الموضوع المذكور في الأوساط الشعبية والأكاديمية العربية نقدم رزمة الأفكار التالية: ثمة ملاحظة في مقدمة هذه الورقة، ربما يقع إجماع الكثير من الباحثين والدارسين والسياسيين عليها، مع جمع متنام من الجمهور العام المنحدر خصوصاً من فلول الطبقات الوسطى، تلك هي أن الديمقراطية كمنظومة من المفاهيم السياسية والثقافية والأيديولوجية، تمثل الآن في مرحلتنا، مدخلاً ومخرجاً، مدخلاً إلى هذه الأخيرة (أي المرحلة) ومخرجاً منها. وبمزيد من التدقيق، نرى أن مرحلتنا المذكورة تتحدد -في أكثر خصوصياتها- بكونها التجسيد الواقعي لما يمكن أن نطلق عليه "الربيع العربي الراهن" من طرف، وبأنها تجسد الحطام العربي ربما في أقصى تعبيراته جبروتاً من طرف آخر. وهذه صيغة لعلها أن تكون تعبيراً فارقاً ومميزاً عن إشكالية الوضعية العربية، ربما منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم منذ حصول عدد من البلدان العربية على استقلالاتها الوطنية. فلقد جاء ما بات يسمى الربيع العربي بمثابته تشكيكاً بأطروحة فوكوياما، التي بمقتضاها وجد العالم نهايته التاريخية منذ العقد الأخير من القرن العشرين، إلا ذلك الحقل الجيوسياسي الليبرالي الجديد ممثلاً خصوصاً بالتاريخ العولمي المتصاعد. فهذا الأخير يقدم نفسه كما يُعلن، من حيث هو القاطرة التاريخية، التي ظلت قيد العمل، لأن صلاحيتها ستختزل وستلخص، من الآن فصاعداً، تاريخ البشرية الصاعد، ومن ثم يبرز النداء التالي المفترض إلى شعوب المعمورة "التي استنفدت تواريخها مع استنفاد صلاحيتها": أيا أيتها الشعوب، لم يبق أمامكم إلا أن تبحثوا عن موطئ قدم لكم في النظام العالمي الجديد، قبل أن تخرج الأمور من أيديكم، فها هنا تجدون ما تفتقدون. وستبقى مهمة بحثية علمية بامتياز وبلا منازع أن يُجاب عن التساؤل التالي: كيف أتيح لـ"الشباب وهم الآن يجسدون فئة جيلية" أن يقوموا -ولو بحد أدنى- بمهمات "حامل اجتماعي" كان يظهر نظيره سابقاً تحت قبضة نظم عربية أمنية بعثرته واخترقته بالفساد والإفساد؟ وعلينا أن نستدرك ونقول، لم يغط الحطام العربي المذكور فئات وطبقات ومجموعات اجتماعية محدودة من المجتمعات العربية فحسب، وإنما هو طال الأكثرية القصوى من سكانها، فاستبد بها بقيادة نظم أمنية تقوم على ما وضعنا يدنا عليه تحت مصطلح "قانون الاستبداد الرباعي" الذي يقوم على أربع هي: الاستفراد بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية الاجتماعية السياسية القائمة. ويبدأ تاريخ الديمقراطية في العالم العربي مع تماسه بالغرب الحديث عبر ثلاث قنوات كبرى، هي التجارة والاقتصاد الريعي التجاري أولاً، وحروب الاستقلال وما جاء معها وبعدها (من حروب استعمارية) ثانياً، وعمليات المثاقفة والصراع الثقافي والأيديولوجي ثالثاً. وقد ظهرت نقاط التماس المذكور عبر مجموعة من رموز النهوض العربي الباكر، وذلك في سياق "البعثات العلمية" العربية إلى بعض بلدان الغرب، وكانت فرنسا في مقدمتها، وكان الغرب هذا كشفاً عظيماً وضع أولئك أيديهم عليه. أما من وضع يده على ذلك، فقد انطلق من المقايسة الجيوسياسية والتاريخية التالية: لماذا تقدم الغرب، وتأخرنا نحن؟ وإذا كان شكيب أرسلان قد صدع بذلك، فإن الرواد الآخرين لم تغب عنهم هذه المقايسة، في معمعان التفكر بذلك ذهنياً. وعلى أرض الواقع من قِبل أولئك الرواد ومن جاء بعدهم، كان الاستعمار الغربي يُفصح عن نفسه مع بروز ما راح يحتاجه من البلدان العربية (وبلدان شرقية أخرى)، وهو الاستجابة للضرورات التي راح الغرب يصوغها بكونها "مجالات حيوية" يحتاجها التدفق الاستعماري لتسويق إنتاجه المتعاظم، مع "ضيق أسواقه" عن استيعابها، حسب ما أتى في خطاب ذلك الأخير. والآن لنضبط محاولة الرواد النهضويين العرب ومن بعدهم بقليل، عملية تمثل "الديمقراطية" الغربية الجديدة، لقد جاء ذلك تحت ضغط عاملين اثنين حاسمين، يتمثل أولهما في تعرّف الرواد العرب على الديمقراطية الغربية (وبعض مفردات منظومة مجتمع العقد الاجتماعي المدني) تقريباً في مرحلة دخول الغرب غازياً وليس منوراً، أما ثانيهما فيتمثل في استعادة جموع واسعة من العرب المسلمين، مصطلح (الشورى الإسلامية) ووضعه في مواجهة تلك، وهذا ما أطال حضور الصراعات على الديمقراطية فبرزت في سياقها التساؤلات الحارة التالية: 1- كيف نُدخل فكراً إلى بلادنا لم ينشأ فيها؟ 2- الديمقراطية تحتاج نضج الشعوب "الجاهلة" أليس كذلك؟ 3- أما الشورى فنملكها وهي البديل. 4- النظم الاستبدادية العربية تأسست على أشلاء المشاريع السياسية الوطنية، التي أطاحت بها انقلابات عسكرية، أليس في ذلك ما يدعو إلى استنباط العصْف الفكري؟ في ذلك المجال التاريخي، أُقصيت السياسة، وجاء إخفاق تجربة الوحدة بين سوريا ومصر استجابة لذلك، فعادت الانقلابات، وتأسست على نتائجها نظم أمنية قادت إلى دولة أمنية، مع إخفاق حركة التحرر العربية الأخيرة (الناصرية). أما هذه الدولة الأمنية خصوصاً فقد انطلقت من قانون جامع مانع هو قانون الاستبداد الرباعي. ونلاحظ أنه من نتائج هذه الدولة برزت العناصر التالية: توحيد الشعب في كونه كله، ما عدا "طغم صغيرة" مقموعاً ومُفقراً ومُذلاً ومُداناً تحت الطلب، وذلك لتجفيف كل شيء وإنهاء الرهانات الوطنية التحررية والاقتصادية والسياسية بكيفية محددة عليه.