متابعات وتغطيات إعلامية تركزت في الآونة الأخيرة على معاناة المرأة الإفريقية، لاسيما في مناطق النزاعات والحروب الأهلية حيث تتواصل مفاعيل الصراعات، ملقيةً بأعباء ثقيلة على أوضاع المرأة والطفل. وفي مناخ تطبعه تناقضات محلية وإقليمية، مشفوعاً بأزمات اقتصادية وسياسية وبيئية وأمنية عويصة، انتخب الاتحاد الأفريقي، خلال قمته المنعقدة الأسبوع الماضي في أديس آبابا، وزيرة الداخلية الجنوب أفريقية، نكوسازانا دلاميني زوما، رئيسة لمفوضيته. وقد تنافست زوما مع الرئيس الحالي للمفوضية، الجابوني جان بينج، خلال الدورة الأولى من الانتخابات في يناير الماضي، لكن أياً منهما لم يحصل على نسبة الثلثين اللازمة للفوز بالمنصب، مما تطلب التمديد لبينج في منصبه ستة أشهر إضافية، واضطر زوما لخوض ثلاث جولات من التصويت قبل إعلان فوزها إثر تصويت نهائي بالثقة حصلت فيه على تأييد 37 من أصل 54 عضواً يوم الأربعاء الماضي. ومثّل فوزها بالمنصب حدثاً غير مسبوق من أوجه عدة؛ فلأول مرة تتولى سيدة رئاسة المفوضية الإفريقية، ولأول مرة يكون هذا المنصب من نصيب قوة إقليمية كبرى. كما أنها المرة الأولى التي يكون فيها رئيس المفوضية ونائبه ناطقان بالإنجليزية، حيث تمت إعادة انتخاب نائب رئيس المفوضية، الكيني "ايراستوس موينشا"، في منصبه. وتعد دلاميني زوما، الزوجة السابقة للرئيس الحالي لجنوب إفريقيا جاكوب زوما، دبلوماسيةً محنكةً، معروفةً بصرامتها ونضالها ضد نظام الفصل العنصري، كما تعتبر السيدة الأقوى والأكثر تأثيراً في أبناء جيلها بجنوب إفريقيا. وهي تملك معرفة واسعة حول مشكلات القارة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية... استقتها من تجربتها كمناضلة ضد نظام الآبرتايد، ثم كوزيرة تقلبت بين عدة قطاعات. وقد ولدت نكوسازانا دلاميني لعائلة محافظة من قومية الزولو في إقليم ناتال بجنوب أفريقيا عام 1949، وكانت الأكبر بين أشقائها الثماني. أكملت دراستها الثانوية والتحقت بجامعة زولولاند عام 1971 حيث حصلت على شهادة البكالوريوس في علم الأحياء. ثم درست الطب في جامعة ناتال، ودخلت معترك السياسة منذ كانت طالبة، حيث التحقت بـ"حزب المؤتمر الوطني الأفريقي" الذي كان حربة النضال ضد نظام التمييز العنصري حينها، وكان منظمة سرية محظورة. وفي عام 1976 تم انتخابها نائبةَ رئيس اتحاد طلاب جنوب أفريقيا، لكن حين اشتد الضغط الأمني على الوطنيين الأفارقة، اختارت المنفى لمواصلة دراستها الطبية في جامعتي بريستول وليفربول البريطانيتين. ومن هناك أسهمت في تنظيم نضال "المؤتمر الوطني الإفريقي" في الخارج، قبل أن تعود للعمل طبيبة في سوازيلاند (مملكة إفريقية داخلية تحيط بها جنوب إفريقيا من جميع الجهات)، حيث التقت بزوما وأصبحت زوجته الثالثة عام 1982، وأنجب منها أربعة أطفال قبل أن يطلقها عام 1998. وخلال ذلك أكملت نكوسازانا دلاميني، في جامعة ليفربول البريطانية عام 1985، دراستها التخصصية في طب الأطفال، وأصبحت رئيسةً لدائرة الصحة في الحزب عام 1987، وفي العام ذاته مديراً لمنظمة بريطانية غير حكومية معنية بتوفير الخدمات الصحية للاجئين. وكانت نكوسازانا دلاميني من قادة الحزب الذين شاركوا في مفاوضاته مع حكومة الآبارتايد عام 1992. ثم أصبحت وزيرة الصحة في أول حكومة يشكلها نيلسون مانديلا عام 1994، حيث عملت على تخليص النظام الصحي من تركة الفصل العنصري، وعلى تمكين الفقراء من الرعاية الصحية المجانية. وعقب تقاعد مانديلا عام 1999 وانتخاب ثابو مبيكي رئيساً لجنوب أفريقيا، عيّنها وزيرة للخارجية، فعرفت بوصفها مهندسة «الدبلوماسية الهادئة» حيال زيمبابوي، الجارة الكبرى لجنوب أفريقيا، حيث أبقت على سياسة حسن الجوار مع هراري رغم الأزمة السياسية التي شهدتها عام 2000 عقب قرار الرئيس موجابي طرد المزارعين البيض، والذي لقي إدانة شديدة من الغرب. ومن نجاحاتها أيضاً الدور الكبير الذي لعبته في مفاوضات إنهاء الحرب الأهلية في جمهورية الكونجو الديمقراطي، والذي جعل المراقبين يعتبرونها سياسية محنكة ذات خبرة واسعة، كما أثنت الصحافة على نهجها البراغماتي الذي "يجعل منها شخصية سياسية من الطراز الرفيع". أما عن أدائها على رأس وزارة الداخلية، فتقول الصحافة الجنوب إفريقية، إن دلاميني زوما استطاعت بصرامتها إعادة ضبط وتنظيم واحدة من أكثر الهيئات التي عرفت بسوء إدارتها. لكن منتقدي دلاميني يأخذون عليها موقفها "الهادئ" حيال النظام الاستبدادي في زيمبابوي، كما ينتقدون انخراطها في الصراع بين زوما ومبيكي، خاصة بعد تطليقها من قبل زوما، حيث عينها مبيكي في العام التالي وزيرة للخارجية، ثم حاول في عام 2007 الدفع بها لخلافته بعد أن تيقن من هزيمته أمام زوما. ومع ذلك فإن هذا الأخير أبقى عليها ضمن حكومته، مُكلِّفاً إياها بوزارة الداخلية، كما أثنى عليها في مرات عديدة، ومن ذلك بيانه الصادر عقب انتخابها مفوضاً للاتحاد الأفريقي، والذي جاء فيه أنه "بهذا التعيين تصبح الدكتورة دلاميني زوما، التي خدمت بلادنا بتميز، في خدمة القارة"، كما وعد بإجراء الترتيبات الضرورية لتمكينها من تولي مهامها الجديدة في أسرع وقت ممكن". وفي منصبها الجديد، كثالث رئيس للجهاز التنفيذي للاتحاد الأفريقي منذ حلوله محل منظمة الوحدة الأفريقية عام 2002، تواجه دلاميني زوما تحديات فورية مع محاولة الاتحاد كسب دعم مجلس الأمن الدولي للقيام بتدخل عسكري في شمال مالي الذي أصبح خاضعاً لتنظيم "القاعدة" بعد انقلاب عسكري في العاصمة باماكو. هذا إلى جانب انقلاب عسكري آخر في غينيا بيساو، والاشتباكات الحدودية بين السودان وجنوب السودان، والحرب المتواصلة في شرق الكونجو، وكذلك المأساة الصومالية... وتحديات الدفع بأفريقيا نحو الاستقرار والتنمية ونظام الحكم الرشيد. وعلاوة على أنها -وغيرها- مشكلات عويصة تعانيها القارة، فإن انتخاب دلاميني زوما رئيساً لمفوضية الاتحاد الأفريقي، أحدث شرخاً داخل الاتحاد، حيث يحذر بعض أعضائه، لاسيما دوله الناطقة بالفرنسية، من تطلعات هيمنية لدى جنوب أفريقيا، العضو في مجموعتي "العشرين" و"البريكس"، والمرشحة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي... ذلك أن ما أبدته من استخفاف بالقاعدة المرعية وغير المكتوبة حتى الآن حول عدم ترشح الدول الكبرى في القارة لمنصب المفوض، يثير الخشية من أن تستخدم بريتوريا موقعها لفرض رؤى ومصالح خاصة على الاتحاد الأفريقي من خلال مفوضته الجديدة. ولا شيء في ذلك يأتي لحساب المرأة الأفريقية، لاسيما في مناطق الوجع والاضطراب! محمد ولد المنى