تزامن في الأسبوع الماضي انعقاد مؤتمر حركة “النهضة” التونسية وحزب "العدالة والتنمية" المغربي، اللذين يتزعمان تحالفين حكوميين بعد تبوئهما المركز الأول في الانتخابات البرلمانية التي نظمت في السنة الماضية في البلدين. وبالإضافة إلى حزب “العدالة والحرية” المصري (الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين) الذي فاز في الانتخابات البرلمانية الملغاة وفي الاقتراع الرئاسي الأخير، فإن الحركتين الإسلاميتين التونسية والمصرية تشكلان الحقل التجريبي الأول لتقويم قدرة التنظيمات الإسلامية على الاندماج الطبيعي في معترك الديمقراطية التعددية وممارسة السلطة التنفيذية في مستوياتها القيادية. وعلى الرغم من النقاط العديدة المشتركة بين التنظيمات الإسلامية الثلاثة التي تنتمي لنفس المدرسة الفكرية، بل إن تجاربها في الاصطدام بالأنظمة السياسية تتماثل في مناح عديدة، إلا أن الأمر يتعلق في العمق بسياقات متغايرة من حيث الخلفيات والرهانات المجتمعية والسياسية. ويمكن القول إجمالًا إن طبيعة الساحة السياسية هي التي تحدد في نهاية المطاف تركيبة التشكيلة الحزبية، في ما وراء الاتفاق الظاهر في الخطاب الفكري والمنظومة الأيديولوجية. وطبيعة الحقل السياسي هي في الجوهر أثر لثوابت بنيوية ومتغيرات كبرى صاغت طبيعة تجربة الحكم ومسار الدولة والعلاقات المعقدة القائمة بين مكونات الفضاء السياسي. وفي الحالات الثلاث المذكورة، نحن أمام سياقات متمايزة، بقدر تمايز مسار الكيانات التاريخية التي شكلت الدول المقصودة هنا. في الحالة المصرية، ظهرت حركة "الإخوان المسلمين" في عشرينيات القرن الماضي في سياق اتسم بعوامل ثلاثة مؤسسة: انهيار الخلافة العثمانية التي تمت محاولات لإنقاذها من البوابة المصرية، تشكل وعي وطني قوي مستند لتجربة الإصلاحات والتحديث المتصلة من عهد محمد علي مع نضالات الحركة الوطنية المتمحورة حول حزب "الوفد" والحاملة لمشروع ليبرالي تنويري، تراجع دور المؤسسة الدينية التقليدية (الأزهر الشريف والإفتاء) معرفياً ومجتمعياً بعد فشل مشروع الإمام محمد عبده لتطويرها وتجديد خطابها ونظمها التربوية والتعليمية. ولقد عبرت حركة "الإخوان المسلمين" عن هذه المعطيات في دعوتها لإحياء الخلافة وبناء دولة الأمة القائمة على الشرعية الدينية، وفي مواجهتها للخطاب الليبرالي التنويري، وفي محاولتها إنشاء مؤسسة دينية بديلة بنفس سياسي احتجاجي ومستقل عن الدولة. ولا يمكن فهم كل محطات الاحتقان السياسي في مصر منذ نهاية الأربعينيات إلى الثورة التي أطاحت بنظام مبارك خارج هذا الإطار السياسي المحدد لتجربة التيار الإسلامي العاصفة في علاقتها بالسلطة وبمكونات الحقل الفكري والسياسي. في تونس، ظهرت حركة "الاتجاه الإسلامي"، التي تسمت من بعد بحركة "النهضة" في ظرفية مغايرة هي نهاية السبعينيات بعد عقدين من تركز التجربة البورقيبية، التي أخذت شكل نزعة وطنية تحديثية بنفس علماني صريح، وسعت إلى تحديث المجتمع بطريقة أبوية تسلطية، مع الاستناد لتركة الإصلاحات الفكرية والاجتماعية التي بدأت منذ عهد منتصف القرن التاسع عشر في عهد "خير الدين التونسي" و"المنصف باي". وعلى عكس الحالة المصرية، لم تكن للإصلاحية التونسية مطامح خارج السياق المحلي .كما أن المؤسسة الدينية واكبت الإصلاحات التحديثية ومنحتها الشرعية العقدية والفقهية، في الوقت الذي تمحور الصراع السياسي في بداية الاستقلال بين جناحي حزب "الدستور":القومي العربي الذي مثله الزعيم "صالح بن يوسف"، والليبرالي المغرق في الوطنية المحلية الذي مثله "بورقيبة" قبل أن يتركز الصراع بين بورقيبية و”اليسار الماركسي”. ولذا ندرك أن الحركة الإسلامية التونسية وجدت نفسها منذ البداية مرغمة على التأقلم مع سقف حداثي عال ترمز إليه "مدونة الأسرة"، التي منحت المرأة حقوقاً مساوية تقريباً للمعايير الأوروبية، كما أنها ظهرت في سياق انهارت فيه بالكامل المؤسسة الدينية التقليدية بعد قرارات بورقيبة المشهورة، التي ألغى بها نظام الوقف والتعليم الأصلي وحول جامعة "الزيتونة" العريقة إلى كلية حديثة تعنى بالعلوم الدينية. وما يلاحظه جل المحللين للشأن التونسي من انفتاح نسبي للتيار الإسلامي التونسي وتبنيه للقيم الليبرالية الحديثة وقبوله التعامل مع باقي القوى السياسية هو أثر لهذه الخلفية، على الرغم من المخاوف الحقيقية من تنامي خط التشدد والانغلاق لدى الجيل الثاني من الحركة الذي تخرج من سجون "بن علي" ومنافيه. في الحالة المغربية معطيات مختلفة نوعياً:مؤسسة ملكية عريقة تقوم شرعيتها على إمارة المؤمنين، وحقل ديني تقليدي قوي يشكل دائرة محورية من دوائر السلطة، ودولة وطنية مكينة الجذور حافظت على هويتها الخصوصية طيلة قرون في مواجهة أشكال التوسع الإمبراطوري الشرقي والشمالي. ولم تظهر التنظيمات الإسلامية الأولى إلا في السبعينيات (حركة الشبيبة الإسلامية)، وظلت هامشية في حقل تهيمن عليه المؤسسة الملكية والأحزاب الوطنية العريقة التي تقاسمت تركة المقاومة وحركة التحرر. ولم يتمكن حزب "العدالة والتنمية" من التشكل السياسي الناجع إلا بفضل تحولات ثلاثة: التشبث بالشرعية الدينية للملكية، والتحالف مع قوى الحركة الوطنية (خصوصاً حزب الاستقلال الذي أسسه العلامة المصلح علال الفاسي )، والمراجعة الفكرية العميقة للأطروحات الإخوانية التقليدية التي سادت لدى الجيل الأول من الحركة (تنظيم الشبيبة الإسلامية). السؤال المطروح بقوة راهناً يتعلق بقياس تأثير تجربة الحكم على طبيعة خطاب واستراتيجيات التيارات الإسلامية، التي بدأت تطبيع وضعها داخل حقل السلطة ودوائر القرار. وإذا كان الوضع المصري يشهد مصاعب ملموسة نتيجة لدور المؤسسة العسكرية في التأسيس الانتقالي ولحجم التنظيمات الإسلامية الهائل في الحراك الانتخابي، الذي يخولها الانفراد بالحكم، فإن الحالة المغربية توحي بالقدرة على استيعاب التنظيم الإسلامي داخل الحقل السياسي المتنوع الذي تحافظ فيه المؤسسة الملكية على دور الرعاية والتحكيم، في حين تبقى التجربة التونسية مفتوحة على احتمالات متعددة بما فيها تحول حزب “النهضة” إلى أول حزب ليبرالي عربي محافظ على الطريقة التركية أو تحوله إلى حزب للدولة على غرار الحزب الدستوري المنحل نتيجة ضعف القوى السياسية المنافسة وعلى الرغم من حيوية المجتمع المدني.