تأثر الجانب الروسي أكثر من الجانب الإيراني بالحدث السوري الهائل. فقد قال لافروف إنها معركةٌ حاسمةٌ تلك التي تجري الآن في دمشق وعليها. أما أمين عام "حزب الله" فقال "إنّ المقتولين شهداء، وقد ساعدونا جميعاً في صراعنا مع إسرائيل"، و"النظام لن يسقط ولا حلَّ إلاّ بالحوار"! لكنه لم يخبرنا ما الرأي ما دام القَتَلة شهداء، فما شأن المقتولين العشرين ألفاً، وما هو حكمه الفقهي فيهم؟! خُلاصة الأمر أنّ الوضع السوري بالنسبة للروس هو ورقة في الصراع على المشاركة العالمية مع الولايات المتحدة. وهناك، إضافةً للوضع السوري، عدة مجالات للتجاذُب؛ مثل الدرع الصاروخي وجورجيا وشرق أوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز.. إلخ. لكنْ هناك مشتركاتٌ أو ملفّاتٌ يعمل فيها الروس مع الأميركيين بالتكافُل والتضامُن ومنها الملف النووي الإيراني، وأمن إسرائيل. وهو يريد أن يعود –كما كانت ورسيا القيصرية الأرثوذكسية- حامياً للأقليات المسيحية الأرثوذكسية، والأرثوذكس يشكّلون أكثريةً بين المسيحيين العرب. والولايات المتحدة لا تختلف معه بهذا الشأن، بل هو يتنافس مع إيران التي تريد أيضاً القيام بدور حامي الأقليات في وجه السُنّة بلبنان وسوريا تحديداً. والأمين العام لـ"حزب الله" انصبّ خطابه مساءَ الأربعاء بعد الأسى على آصف شوكت وزملائه، على تأكيد التحالُف مع الجنرال عون، ولام بطريقةٍ خفيةٍ بعض الشيء نبيه بري لأنه ينهمك في الجدال مع عون، الذي يحرص الأمين العام على استمرار رضاه، وهذه مهمةٌ صعبةٌ إن لم تكن مستحيلة! ولنُعدْ إلى روسيا والملف السوري. فقد أسرفت روسيا في استفزاز الغرب والعرب بشأن سوريا، ومنعت عملياً عن السوريين المصابين بنظامهم كلَّ مساعدةٍ دوليةٍ فعّالة. فإذا كان الصليب الأحمر الدولي يعلن أنّ في سوريا حرباً أهلية، وأنّ طرفي النزاع على قدم المساواة في المسؤولية أمام القانون الدولي الإنساني، فكيف يكون بُوسع روسيا التنكُّر لهذه الحقائق بعد عامٍ ونصفٍ على سفك الدم، وتهجير الملايين وقتلهم؟! ويقال إنّ من أسباب "تصلُّب" الموقفين الروسي والصيني، أنّ البلدين يملكان مشكلات مع أقلياتهم الإسلامية وطلائعها المتشددة في الشيشان وداغستان والقوقاز وسينكيانغ، وهم مقتنعون أنّ أمثال متشدديهم سيصلون للسلطة بسوريا. ولا غرابة في هذا الاقتناع، فقبل ثلاثة أشهر اقتنع الأميركيون أنّ القاعدة "تسللت" من إيران إلى سوريا ولبنان، وبدون علم النظام السوري ولا موافقته. وأبدت استعداداً للتعامل مع الأجهزة السورية واللبنانية (التابعة للنظام السوري) في مكافحة "القاعدة" والإرهاب! إنما العجب من أين تأتي هذه "القناعة"، ومن أي معطيات: أنّ المتطرفين والإرهابيين سيخلفون الأسد المتنور والمسالم في حكم سوريا؟! وعلى أي حالٍ؛ فإنّ الملف السوري المُشْكل والمعقَّد يظل موضوعاً للتجاذُب بين روسيا والغرب، وإن لم يكن بالغ الأهمية للطرفين بحيث يؤثّر على متانة العلاقة. ولنلاحظ أن الولايات المتحدة تضع البريطانيين والألمان في الواجهة في الصراع مع روسيا، لكي يظل هناك خط رجعةٍ بين الطرفين. ويقول الأميركيون إنهم مستعدون لصفقة مع الروس بشأن سوريا، ومن مصلحة الروس التجاوب منذ أكثر من ستة أشهر، ولن تعود لهذه الورقة التي بيدهم أية قيمةٍ مع تزايُد ضعف الأسد وتزايد احتمالات انهيار نظامه! ويختلف الأمر مع الإيرانيين لأربعة أسباب: استراتيجية تصدير الثورة ونشر مناطق النفوذ –وتكتيك التعويض عن المشكلات الداخلية بالانتصارات الخارجية- وتكتيك استخدام فلسطين والمنطقة العربية للتجاذُب والتلاقي مع الولايات المتحدة- وإظهار رفض الحصار والتمرد عليه الآن! فقد أقامت إيران خطاً استراتيجياً أيام بوش الابن يصل العراق بسوريا بلبنان وإلى البحر المتوسط وحدود إسرائيل. والخط هذا شديد الأهمية بالمعنى الاستراتيجي. ولكي تزيد إيران في عيون شعبها من الاقتناع بهذا الخطّ فقد اعتبرته هلالاً شيعياً، دونما اعتباراتٍ كثيرةٍ لتشيع العلويين أو عدم تشيُّعهم! وكان هذا الخطُّ في العقد الماضي كثير المكاسب، وكلما هدَّدت إيران الولايات المتحدة وإسرائيل عن طريقه، كانت تكسب وتحصل على المزيد من التنازُلات. ثم انسحب الأميركيون من العراق، وغيروا سياساتهم بالمنطقة، واتجهوا لاستخدام القبضة الناعمة في مواجهة إيران! وتمثّلت المشكلة لإيران بأنها- وبسبب قيام الثورة وفي سوريا تحديداً- ما عادت قادرةً على استخدام هذا المحور في التجاذُب مع الأميركيين، إلا مع احتمال التعرض لأفدح الأخطار. فقطاع غزة ما عاد استعماله ممكناً بعد مغادرة "حماس" لسوريا وإيران، واستعمال لبنان يعني القضاء على "حزب الله" أخيراً أو إنزال أضرار هائلة به وبلبنان. ولا تستطيع إيران إغلاق مضيق هرمز بالفعل، وإلا ازدادت احتمالات الضربة لها وهذه المرة من جانب الولايات المتحدة. ولذلك اعتبرت إيران منذ اللحظة الأُولى للثورة السورية أن الدفاع عن النظام السوري هو مثل الدفاع عن طهران أو عن المالكي بالعراق. بل إن هناك من يعتقد أن انهيار النظام السوري سوف يهدد النظام العراقي المتزعزع الآن بسبب ثوران الأكراد وتغييب السنة. ولذلك فقد تحدث نصر الله عما حدث ويحدث بسوريا منذ أكثر من عام، كأنما هو وصي على النظام، والإيرانيون الآن هم كذلك بالفعل. وإذا كانوا يخشون على خطهم الاستراتيجي، وعلى وكيلهم بالعراق من انهيار الأسد، فلا شك أنهم يخشون أكثر على قدرة نصر الله على الاستمرار أو السيطرة أو تشكيل تهديد إن توارى النظام المُمانع هناك. وقد كان عجيباً أن يتحدث الأمين العام للحزب عن الصمود في وجه إسرائيل لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً في حرب عام 2006، لأن السياق الذي كان يتحدث فيه هو سياق الدفاع عن نظام بشار: فهل المطلوب الآن الصمود في وجه الثورة السورية والشعب السوري كالصمود في وجه الجيش الإسرائيلي؟ تُواجه إيران إذن وضعاً جديداً بالمنطقة بعد الثورات العربية، وتغير السياسات الأميركية، وسقوط الراية الفلسطينية من يدها. وإذا كان هناك من يعتبر نظام الأسد المتصدع بمثابة الذئب الجريح الذي يمكن أن يكون مؤذياً؛ فإنّ النظام الإيراني يكاد يتردَّى في وضع مُشابه. لقد كان يصارع في السابق بأدوات تقع خارج حدوده. أما اليوم فالحصار شديدُ الإحكام عليه، والأدوات خارج الحدود تتحول إلى أعباء ومسؤوليات. لذلك فقد يلجأ للإيذاء العاجل من خلال تحريك التنظيمات الموالية له بالمشرق العربي والخليج. ويوم الأربعاء الماضي، يوم الملحمة بدمشق، اتهمت إسرائيل أجهزة إيران و"حزب الله" بقتل سبعة إسرائيليين ببلغاريا، وذكر الرئيس اليمني أن تنظيماً إيرانياً اكتشف باليمن يعمل مع الانفصاليين الجنوبيين، وربما مع جهاتٍ أُخرى. وتبقى احتمالات التحرش بإسرائيل أو بالأميركيين بالخارج واردةً رغم خطورتها على ما تريد إيران تحقيقه أو رفْضَه. وستظلُّ إيران تدعم الأسد لحين اختفائه نهائياً، وقد تعمد بعدها إلى العمل على نشر الفوضى كما حدث أن فعلت بالعراق قبل الانسحاب الأميركي وبعده. ولذا يصحُّ القول المأثور بشأن ما حدث بسوريا: إنه يومٌ له ما بعده!