في مواجهة الحجج النقديّة، بل الاتّهاميّة، التي يسوقها خصوم "الربيع العربيّ" وثوراته، جاءت نتائج الانتخابات الليبيّة الأخيرة تعلن أنّ الخيارات التي باتت متاحة أمام الشعوب ليست أبداً من لون واحد، وأنّ هناك فرصاً جديدة للتدخّل والتأثير الإنسانيّين في المجريات العامّة. صحيحٌ أنّ وصف الذين فازوا في الانتخابات الليبيّة بـ "الليبراليّين" ينطوي على قدر من المبالغة وعدم الدقّة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الإسلاميّين إنّما حُرموا انتصاراً سبق أنّ توقّع الجميع حصوله وضمنوه. وهذا يعني أنّ السياسة بدأت تجد لها موقع قدم في البلد الذي كان معمّر القذّافي قد حكمه منذ 1969 فعزله عن العالم وأحكم عزلته كما أعدم سائر احتمالاته وممكناته. هكذا تبيّن أنّ وراء "الجماهيريّة" وسيّدها العقيد اللذين حجبا كلّ شيء آخر عداهما، توجد قوى وتيّارات وآراء ومصالح مختلفة، وبالتأكيد توجد عشائر وقبائل وإثنيّات سوف تجهد كلّها بعد اليوم كي تتدبّر أمر تعايشها، على هذا النحو أو ذاك. ومن ليبيا إلى مصر، وبغضّ النظر عن النتائج التي سوف ينتهي إليها النزاع الإسلاميّ – العسكريّ – الشبابيّ، يمكن القول إنّنا للمرّة الأولى، منذ انقلاب 1952 الناصريّ، نسمع بوجهات نظر مختلفة في أمور الدنيا والدين، وفي العلاقة بينهما، كما نجدنا أمام محكمة دستوريّة تصدر الأحكام، وأمام حجج يعترض أصحابها قانونيّاً على الأحكام تلك. ووراء هذا الضجيج كلّه يتبدّى كم أنّ السياسة صارت ترتبط بالقوانين وبالنقاش العامّ، وهو ما لا سياسة من دونه بتاتاً. ومؤخّراً، وعلى هامش مؤتمرها، زوّدتنا الأخبار بوجود تناقضات بين أجيال حركة "النهضة" الإسلاميّة في تونس، وبتأثّر كلّ واحد من تلك الأجيال بما عرفه وعاشه في زمنه ممّا لا يصحّ في جيل آخر. وهذا إنّما يشي بأنّ الكتل الحزبيّة الإسلاميّة هي نفسها ليست كتلاً صلدة صمّاء، بل تجوز عليها التمايزات والانشقاقات التي تُغني الحياة السياسيّة وتغيّر وجهاتها المفترضة. ويمكن العثور على عدد لا يُحصى من الأمثلة والشواهد المشابهة في تلك البلدان العربيّة المذكورة، كما في سواها، ممّا يعزّز القول بأنّ الواقع الذي كان ممسوكاً حديديّاً قد انهار لمصلحة واقع جديد متعدّد، تصنعه جهود البشر وإراداتهم ومسؤوليّاتهم، وأنّ رؤوس الملايين بدأت تظهر من وراء الرأس الواحد الذي كان يحجب المشهد كلّه باسطاً هيمنته الثقيلة. وليس من المبالغة القول إنّ سيولة الحرّيّة هي التمهيد الذي لا بدّ منه لسيولة السياسة، بل لكلّ العناوين المتبقّية والكثيرة على أجندة الحداثة والدمقرطة. فمن دون حرّيّة يستحيل طلب أيّ مكسب آخر، من غير أن يعني هذا أيّ طريق سهلة معبّدة تتفادى المخاطر والسلبيّات. وإذا ما جاز لنا القياس بتجربة الثورة الفرنسيّة، أمكن القول إنّ الحرّيّة التي وفّرتها كانت الشرط المسبق والشارط لإنجازات الحداثة الأخرى التي استلزمتها عقود ونضالات ودماء قبل أن تستقرّ على حالها الراهنة. بيد أنّ هذه المهمّة، طلب الحرّيّة، أصعب ما تكون في سوريّا على ما يبدو. فالنظام في دمشق مصرّ على الذهاب أبعد ما يمكن كي يمنع شعبه من أن يقرّر مصيره بنفسه وأن يصنع مستقبله بيديه. وإذا ما صدّقنا نوّاف فارس، السفير السوريّ السابق في العراق، الذي انشقّ مؤخّراً، في حديثه إلى تلفزيون "بي. بي. سي"، فإنّ النظام المذكور قد لا يتردّد في استخدام السلاح الكيماويّ إذا ما استدعى بقاؤه ذلك! والصعوبة السوريّة الاستثنائيّة هذه، إنّما ترجع إلى عوامل يتفرّد بها النظام الأسديّ قياساً بسواه من الأنظمة المشابهة: فهو، بلا أيّ قياس، أشرس من تلك الأنظمة التي حكمت كلاًّ من مصر وتونس واليمن. ولئن كان النظام الليبيّ السابق يشبه زميله السوريّ في الشراسة، إلاّ أنّه أكثر منه اعتباطيّة وأقلّ منه منهجيّة في ممارسة العنف على شعبه. إلى ذلك فإنّ النظام السوريّ أشدّ ارتباطاً بشبكات مصالح إقليميّة ودوليّة من سائر الأنظمة السابقة. فهو، وكما بتنا نعرف جميعاً، وثيق الصلة بروسيا وإيران، وإلى حدّ ما بالصين، لكنّه، إلى هذا، متداخل مع قوى ومصالح فعليّة في كلّ من العراق ولبنان والأردن وبين الفلسطينيّين، فضلاً عن تحكّمه بقراري الحرب والسلم مع إسرائيل. وهنا يلعب الموقع الجغرافيّ المحوريّ لسوريّا دوراً كبيراً في ارتسام الأمور على النحو هذا. والنظام الأسديّ، استطراداً، إنّما يضع في جيبه ورقة الممانعة و"القضيّة"، بما يراد له أن يوحي أنّ الصراع معه ينطوي على "انحراف" عن "الثوابت الاستراتيجيّة للأمّة" وعلى ملاقاة أعدائها في منتصف الطريق. وهذا، في مجموعه، يعني أنّ الطريق إلى الحرّيّة والخيار الحرّ ستكون في سوريّا أطول الطرق وأشدّها عذاباً وألماً، لا سيّما في ظلّ عنصرين اثنين يزيدان الطريق طولاً وعذاباً: فمن جهة، هناك أحوال المعارضة التي لا تسمح بتوقّع قدرتها على حسم الصراع مع النظام لصالحها، وإن كانت تسمح بالجزم بأنّها كافية لمنع النظام من الانتصار، خصوصاً إذا ما تعاظمت حركة الانشقاق عن الجيش الرسميّ وزادت قوّة "الجيش السوريّ الحرّ" تالياً. ومن جهة أخرى، هناك التخاذل الإقليميّ والدوليّ حيث لا تزال التصريحات والمواقف اللفظيّة أقوى بلا قياس من الأعمال الفعليّة الوازنة والمؤثّرة. وقد لا يكون من المبالغة القول، في هذا المجال، إنّ الثورة السوريّة تشكّل اليوم الامتحان الأبرز كونيّاً لمدى شلل النظام الدوليّ الراهن في ظلّ أوباما، وفي موازاة الأزمة الاقتصاديّة الضاربة، فضلاً عن كونها المحكّ الكاشف لمحدوديّة النظام الإقليميّ وانخفاض عتبة التوقّعات المتّصلة به. لكنّ السوريّين، كائناً ما كان الأمر، نجحوا في البرهنة على شيء واحد كبير جدّاً: أنّ ما خرجوا من بيوتهم طلباً له، هو ما لن يعودوا إلى بيوتهم قبل تحقيقه. وهذا هو الحرّيّة.