يُعتبر الروائي الكولومبي "جابريل جارسيا ماركيز" الذي وُلد في أوائل القرن العشرين، أشهر أديب بأميركا اللاتينيّة، ومن أوائل الروائيين الذين أسسوا للواقعيّة السحريّة في كتاباتهم، وإنْ كان "ماركيز" يرفض هذا المصطلح مفضلاً عليه مصطلح الواقعيّة المأساويّة. لا يختلف اثنان على مكانة "ماركيز" الأدبية الرفيعة، التي لا تقل عن مكانة أدباء عظام مثل "تشارلز ديكنز"، "جويس جيمس"، "وليام فوكنر"، "فرجينيا وولف" وغيرهم. وقد نجح بفضل روايته "مئة عام من العزلة" في الحصول على جائزة نوبل للآداب، التي مازال النقّاد إلى اليوم يعتبرونها من أفضل رواياته بل وأهم رواية صدرت بالقرن العشرين. كتب ماركيز تُباع بالملايين، وشهرته العالميّة تُضاهي شهرة نجوم الكرة والفن. والمذهل في الأمر أن هذا الأديب الذي بلغ حدّا واسعاً من الثراء، ويحرص العديد من أصحاب السلطة على كسب صداقته، إلا أنه ظلّ وفيّاً لمبادئه. رجلاً يساريّاً في تفكيره، ومُدافعاً شرساً عن مبادئ العدالة الاجتماعيّة، ومساهماً إيجابيّاً في مشاريع تخصُّ الصحافة والسينما. وقد ظلّت علاقته القوية بالرئيس الكوبي "فيدل كاسترو" محل جدل كبير في الأوساط السياسيّة والثقافيّة. في كتاب "سيرة حياة جابريل جارسيا ماركيز" التي كتبها الصحفي "جيرالد مارتن"، يقول بأنه أنشغل بإنجاز سيرة حياة هذا الروائي العظيم سبعة عشر عاماً، أجرى خلالها ما يُقارب الثلاثمائة مقابلة مع العديد من الشخصيات العامة التي عرفت "ماركيز" عن قرب والتي رحلت معظمها عن الحياة. يسرد جيرالد على لسان "ماركيز" كيف ذهب مع زوجته إلى إدارة البريد ليرسل المخطوطة النهائيّة لروايته "مئة عام من العزلة" إلى دار النشر. وكيف كانت الرزمة تحتوي على أربعمائة وتسعين صفحة منضدّة على الآلة الكاتبة. وعندما قال له الموظف المسؤول "اثنان وثمانون بيزوس" ثمن إرسالها، نظر ماركيز إلى زوجته التي قامت بتفتيش حقيبة يدها بحثاً عن النقود، ليكتشفا أنما لا يملكان سوى خمسين بيزوس. أضطّر ماركيز وقتها إلى إرسال نصف الرواية، وعادا إلى البيت ورهنا المدفأة الكهربائيّة، ومجفف الشعر، والمفرمة الكهربائيّة، وعادا إلى إدارة البريد وأرسلا الدفعة الثانية. هذا الأديب الذي اجتمع الجميع على عشق أدبه، أعلن شقيقه مؤخراً بأنّ "ماركيز" قد سقط عقله في دائرة الخرف، وأن معاناته بدأت قبل عقد من الزمن بعد نجاته من مرض السرطان الذي أصابه في سن الخامسة والثمانين. وهو الآن يعيش في أحد منازله العديدة بجنوب المكسيك، وبات من الصعب عليه التعرّف على أصدقائه والأفراد المقربين منه. خبر أليم خلّف صدمة لي وللكثيرين. فمن الصعب أن تُصدّق أن رجلا كتب هذا الكم من الروائع الخالدة، ينقضُّ عليه النسيان وينهش ذاكرته دون أن يضع اعتباراً لإرثه الأدبي العظيم! هذا الروائي الذي قال يوماً: "إنني كاتب هيّاب. مهنتي الحقيقيّة هي مهنة ساحر، لكنني أرتبك ارتباكاً شديداً وأنا أحاول القيام ببعض الحيل التي أضطر إلى أن ألوذ بها من جرّاء عزلة الأدب.. في حالتي الشخصيّة، فإنّ كوني كاتباً من الكتّاب، ليس سوى إنجاز استثنائي لأنّ كتابتي رديئة جدّاً، وعليّ أن أخضع نفسي لانضباط بشع كي أنهي كتابة صفحة واحدة بعد ثماني ساعات من العمل". مدرسة نضال لملايين من الشباب المبتدئ الذي يرى أنه يمتلك موهبة الإبداع. سيرة جميلة تستوجب من الأدباء الناشئين تعلم خطواتها والوقوف عند مسالكها الوعرة، دون أن يتملكهم الغرور وهم يضعون أقدامهم على بداية الطريق. تاريخ مشرّف يُوضح للمبدعين أن الوصول إلى الشهرة لا يعني التخلّي عن مبادئهم ولا يعني التنكّر لماضيهم وركوب الموجات السائدة!