كثيراً ما كانت تعقد المقارنة بين حافظ الأسد، والد الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، ورجل الدولة الأوروبي "بسمارك" الذي استطاع بفضل دهائه السياسي وأسلوب الواقعية السياسية توحيد ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر. وبالرجوع إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهو كان قد وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري أبيض عام 1970، عقب تدخل كارثي للقوات السورية إلى جانب الفلسطينيين أثناء مواجهتهم مع قوات الملك حسين في الأردن خلال ما بات يعرف بـ"أيلول الأسود". لكن ما أن وصل إلى السلطة حتى سارع إلى تركيزها في يده، مغلقاً الباب أمام المعارضة، مانعاً إجراء انتخابات، وفارضاً حالة الطوارئ. وهكذا تمكن حافظ الأسد من فرض نظام شمولي ضمِن له الاستمرار في السلطة ثلاثين عاماً، مستخدماً القمع الوحشي في إخراس الأصوات المعارضة، والتلاعب بالأصدقاء كما الأعداء، وعندما توفي سنة 2000 خلفه نجله بشار الأسد. لكن الأسد الابن يبدو بعيداً كل البعد عن خصال "بسمارك" وعن مميزات والده، فقد تمت تنشئته ليكون طبيب عيون، لذلك لا دراية له بأمور السياسة. وإذا كانت إحدى الخصال الأساسية التي ميزت الأسد الأب هي تمكنه الكبير من الواقعية السياسية، فإن أهم ما يميز الأسد الابن هي القدرة على خداع النفس. فلفترة وجيزة أعقبت توليه السلطة، تعاظمت الآمال في إجرائه تغييرات جوهرية في بنية النظام القمعي، وقيامه بإصلاحات سياسية واقتصادية تفكك الأسلوب القديم في الحكم. ومع أنه تأكد من رغبة الشعب في الإصلاح، فإن استجابته جاءت مخيبة للآمال، حيث لجأ إلى التسويف للالتفاف على مطلب الإصلاح. ورغم بعض الخطوات التي قام بها في اتجاه الانفتاح الاقتصادي، فإن نتائجها ظلت محصورة في أيدي قلة قليلة من النخبة المستفيدة، لذلك فقد تم تأجيل المطالب الجوهرية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي، إلى ما لا نهاية، مؤججة بذلك غضب الجماهير الذي ظل مكتوماً إلى أن انفجر مؤخراً. فبعد هبوب رياح "الربيع العربي" على المنطقة واجتياحها دول الشرق الأوسط أوائل 2011، استلهم الشعب السوري تجارب الشعوب العربية الأخرى لينزل إلى الشارع معبراً عن سخطه، ومطالباً بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية. لكن الرئيس السوري، وبدلا من الاستجابة لمطالب الشعب ومواكبتها، أثبت فشله الذريع في التقاط نبض الشارع. ورغم النموذجين التونسي والمصري اللذين كان ماثلين أمام بشار الأسد، فقد أقنع نفسه بلا شرعية الحركة الاحتجاجية التي بدأت تنتشر في جميع أنحاء سوريا، بل اعتبر طيلة الفترة السابقة، وكما صرح لإحدى الصحف التركية، أن الحركة الاحتجاجية ليست أكثر من "حادث عارض" تتلقى الدعم من خارج سوريا ويحركها المتشددون الإسلاميون، واصفاً إياهم "بالإرهابيين" الذين يمتلكون سلاحاً متطوراً! لكن إذا كان الأسد قادراً على خداع نفسه والاقتناع بفكرة المؤامرة الخارجية، فكيف يمكنه إذا تفسير مقتل العدد الكبير من أبناء الشعب، الذين أغلبهم من غير المقاتلين. وبصرف النظر عن استمرار الأسد في خداع نفسه، وإصراره على عدم رؤية حقيقة نظامه القمعي، وركونه إلى مسوغات واهية لتبرير عنف النظام... فإنه يتعين عليه الإصغاء جيداً لما يقوله المجتمع الدولي. وهنا لابد من الإشارة إلى تصريحات أوباما التي أدان فيها أكثر من مرة فظائع نظام الأسد ضد شعبه، فقد سبق له أن قال: "أدين بشدة الهجوم الوحشي للحكومة السورية... ويتعين على الأسد وقف حملة القتل والجرائم التي يرتكبها بحق الشعب". كما أن آخر تقرير لمجلس حقوق الإنسان الدولي أشار إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، وإلى التعذيب الممنهج الذي يخضع له النشطاء. وقد مرر المجلس قراراً يصف فيه الوضع السوري بأنه "كارثة إنسانية من صنع البشر". وحتى الجامعة العربية لم تقوَ على تحمل الفظائع، فعمدت إلى تجميد عضوية سوريا، فيما خفضت العديد من الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع النظام، أما الأمم المتحدة فصوتت جمعيتها العامة، حيث لا تستطيع روسيا والصين استخدام حق النفض (الفيتو)، على قرار يدين العنف الذي يرتكبه النظام السوري، وعبر القرار الذي صوتت عليه 137 دولة عن تأييد المبادرة العربية التي تدعو الأسد للتنحي عن السلطة وتنظيم انتخابات عامة وتشكيل حكومة وحدة وطنية. وعلى الصعيد الجيوسياسي أنتجت الأزمة السورية اصطفافات إقليمية تهدد بزعزعة استقرار المنطقة بين إيران وسوريا و"حزب الله" من جهة، وتركيا وقطر والسعودية وأوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى. واللافت أن هذا النوع من التوازن الإقليمي الدقيق هو ما برع فيه حافظ الأسد وأجاد التعامل معه طيلة سنوات حكمه، فيما يبدو نجله الآن يصارع للبقاء في السلطة دون أن يكون مهيئاً للخروج الآمن من الأزمة. وبينما يقف بشار الأسد عاجزاً عن وقف حمام الدم، ترتكب إحدى أبشع الجرائم ضد الشعب السوري ليصبح النظام فاقداً لشرعية تمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه كما يفترض في جميع الأنظمة الوطنية، لذا يبقى الحل الوحيد تنحيه عن السلطة وإعطاء الفرصة للشعب كي يختار ممثليه بكل حرية. ورغم وجود المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة التي تحرم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فإنه في حال تدهور الوضع في سوريا لن يكون أمام المجتمع الدولي سوى التدخل لإنقاذ الشعب السوري.