الصيام هو الركن الرابع من أركان الإسلام، وإذا كان الصائم مطالباً بالإمساك خلاله عن الطعام والشراب، فإنه قبل ذلك مطالب بفهم حقيقة رمضان، وقيمه وفضائله، والذي يكون فيه فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر له الملائكة حتى يفطر. وفي هذا الشهر تصفد الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتضاعف الحسنات، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر... إنه شهر القرآن حيث يتعرف المسلم على مغزى عبادة الصيام ومنهاج السلوك الأخلاقي والروحي الذي يتقيد به الصائم تقرباً إلى خالقه رب العالمين، وذلك عبر حسن العبادة والتقوى وحسن التعامل والمحافظة على قواعد النظام الأخلاقي في المجتمع. ومن هنا يحدث التغيير في حياة الفرد، في نفسه وفي سلوكه، وصولا إلى المجتمع والأمة، لأن حركة التغيير والتطوير في النفس تتفاعل ديناميكياً مع حركة التجدد التي تحدث في المجتمع، ويتجلى ذلك في نظرة الإنسان المسلم لنفسه وواقع مجتمعه، حيث يسهم الصيام في تصحيح المسار وتصويب قواعد النظام الأخلاقي نحو مزيد من الصلاح عند الفرد وعند المجتمع، مما يدفع بالأمور نحو نهضة حقيقية تتحقق من خلالها الإنجازات المطلوبة، والتي سبق أن تحققت في تاريخ المسلمين بفعل هذا التفاعل والترابط بين العبد وربه. إن الصوم هو بالأساس قوة نورانية تطهر النفس والجسد والروح والعقل، وتزكية روحية وعقلية وأخلاقية لإعادة مسار الواقع إلى وضعه الطبيعي والصحيح، كما أنه حركة وسط حالة الثبات والجمود التي تعطل ديناميكية الحياة سعياً لدفع الإنسان المسلم نحو البحث عن لحظة التجديد في ميادين الفكر المختلفة، لاسيما في عالم اليوم، حيث يتجلى التغيير ويسري في كل ميادين الحياة، ومنها الحياة الدينية. ووفقاً للمفكر محمد إقبال، في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، فإن الحياة الدينية من الوجهة العامة يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أطوار هي: طور الإيمان، وطور الفكر، وطور الاستكشاف... وفي الطور الأخير تزيد الحياة الدينية من طموح الإنسان إلى الاتصال المباشر بالحقيقة القصوى، حيث يصبح الدين تمثلاً للحياة والقدرة، وحيث يكتسب الفرد شخصية حرة، لا بالتحلل من قيود الشريعة، ولكن بالكشف عن أصلها البعيد في أعماق شعوره. وانطلاقاً من تلك الصورة العمومية، فإن الصوم قوة روحية تنبعث في نفس الصائم، وقوة أخلاقية تنبعث في جسده، ورسالة إنسانية عميقة المعاني والأهداف تتجدد من خلالها جوانب كثيرة ومعان إنسانية عديدة، تعمل جميعها على إعادة بناء الإنسان، وتالياً المجتمع، وفق أسس سليمة، وتأسيسها بالاتساق مع رؤية فلسفية واضحة لإحداث النهوض والتطوير كغاية مشتركة لسائر المجتمعات الإنسانية.