عندما تنبأ الفيلسوف الفرنسي مارلو -مستشار الرئيس شارل ديجول- في الستينيات من القرن الماضي أن القرن الواحد والعشرين سيكون دينياً أو لا يكون، لم يصدقه الكثيرون. في ذلك الوقت كان الدين في المجتمعات الأوروبية لا يزال واقعاً بين مطرقة الحداثة وسندان العلمنة. ولذلك بدا الحديث عن استعادة الدين لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية حديث وهم وهرطقة. ولقد تعرضت نظرية "مارلو" إلى الكثير من الانتقادات الحادة التي لم ترحم صاحبها. ولم تشفع له دراساته الفلسفية الحديثة إلا بالقليل من المهادنة، ولم تمنحه علاقاته بالرئيس ديجول إلا القليل من الأسباب التخفيفية. إلا أن العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أثبت كم كان "مارلو" محقاً، وكم كان بعيد النظر في قراءته لمسار الحركة السياسية – العقدية في المجتمعات المختلفة. وهي القراءة التي صاغها فيما بعد، أي في مطلع القرن الحالي، المفكر الأميركي صموئيل هنتجتون في نظرية صراع الحضارات. لقد سقط الاتحاد السوفييتي تحت ضربات حركتين دينيتين من دون تنسيق بينهما. الحركة الإسلامية في أفغانستان وحركة الكنيسة الكاثوليكية في بولندا. وكانت الولايات المتحدة تدعم الحركتين وتساعدهما، ليس إيماناً بالإسلام ولا بالكاثوليكية، ولكن لتوجيه ضربة قاضية إلى النظام الشيوعي في عقر داره، حتى إذا نجحت المهمة، تحولت الحركتان إلى قوتين مؤثرتين في صناعة عالم القرن الواحد والعشرين، أي عالم بعد الشيوعية. حاولت الولايات المتحدة توجيه قوة اندفاع الحركتين إلى عمق الاتحاد الروسي. فانفجرت الاضطرابات الاستقلالية في دول القوقاز وخاصة في الشيشان. كما انفجرت اضطرابات مماثلة في جورجيا وفي دول البلطيق الكاثوليكية الثلاث التي تمكنت من انتزاع استقلالاتها. ثم وقعت سلسلة الصراعات السياسية على خلفية دينية في البلقان، وكان آخرها في كوسوفو. ولذلك لم يكن مفاجئاً ، في الوقت الذي تتحول فيه إسرائيل إلى دولة دينية - يهودية، أن تقفز جماعات إسلامية إلى مقعد قيادة حركة التغيير التي عصفت ولا تزال تعصف بالعديد من الدول العربية. ولذلك أيضاً لم يكن مفاجئاً أن يبدي الاتحاد الروسي قلقه منها وشكوكه في أهدافها وتطلعاتها. فموسكو لم تتمكن من مهادنة حركة التغيير في الشيشان إلا بالقمع العسكري. ولم تتمكن من تدجين دول القوقاز الأخرى إلا بالتخويف من أن تتعرض هي الأخرى لمثل ما تعرضت له مدن الشيشان من تدمير. حاولت الولايات المتحدة أن تجعل من الشيشان أفغانستان ثانية، ولكن الكريملن الروسي أثبت أنه غير الكريملن السوفييتي. والفارق بين الاثنين هو موقع ودور الكنيسة الأرثوذكسية التي استعادت دورها المؤثر في صناعة القرار الروسي. وقد ذهبت الكنيسة إلى حد مطالبة الكريملن بالعمل على حماية مسيحيي الشرق "الأرثوذكس" مما يتعرضون له من مخاطر على حد وصفها. وهي الدعوة التي تغطي الموقف الروسي من الأحداث الدموية في سوريا. صحيح أن لهذا الموقف حسابات ومصالح استراتيجية أمنية وسياسية وعسكرية مختلفة، إلا أن البعد الديني لم يعد خارج دائرة الاهتمام ولا حتى مجرد بُعدٍ ثانوي. تعيد هذه التطورات إلى الأذهان كيف تعاملت الدول الكبرى في القرن التاسع عشر مع ما كان يسمى بـ"المسألة الشرقية". إذ تولت كل دولة حماية جماعة دينية من الجماعات المكونة لشعوب المنطقة. فتولت روسيا حماية المسيحيين الأرثوذكس، وتولت النمسا والمجر حماية المسيحيين الكاثوليك، وتولت فرنسا حماية المسيحيين الموارنة. ومنحت بريطانيا نفسها سلطة حماية الدروز ومن ثم صناعة وطن ليهود جرى استقدامهم من الخارج. أما المسلمون فقد بقوا تحت رحمة الإمبراطورية العثمانية التي كانت في حالة احتضار وموت سريري. حدث ذلك في الوقت الذي كانت فرنسا تعلن "موت الدين" من خلال تبني نظام العلمنة الكاملة. أي أنها في الوقت الذي كانت تضطهد الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية وتصفيها وتمنعها من التدخل في الشأن العام، كانت تطرح نفسها حامية للكنيسة في لبنان والشرق! أما ما يحدث الآن في الاتحاد الروسي تحديداً، فإنه يعكس تلازماً بين انتعاش الكنيسة الأرثوذكسية الوطنية من جديد وبين موقف الكريملن من "المسألة الشرقية"! لم يطلب مسيحيو الشرق من أي من هذه الدول الغربية الكبرى حمايتهم، ولكن الحماية فرضت عليهم كمدخل إلى طاولة اقتسام تركة "الرجل المريض". ولو لم يدرك مسلمو الشرق هذه الحقيقة لما قامت للعلاقات الوطنية بين المسلمين والمسيحيين قائمة. فالمسيحيون لعبوا فيما بعد دوراً رائداً في حركة التحرير من الاستعمار، ثم في حركة المقاومة ضد الصهيونية. وقاومت الأديرة عملية "تتريك" اللغة العربية، وهي لغة القرآن الكريم من خلال وضع وطبع المؤلفات اللغوية والأدبية التي أثرت الثقافة العربية. والرهان اليوم هو على استمرار هذا الدور رغم تصاعد موجات التخويف من المد الإسلامي، الذي يصور على أنه بدأ يأكل الأخضر واليابس من الآمال التي نبتت مع إطلالة الربيع العربي. تخشى أوروبا مما تتصوره تمدداً إسلامياً في مجتمعاتها، فالمسلمون اليوم يشكلون أربعة بالمائة من عدد سكانها، أي حوالي 40 مليوناً. وهذا التمدد أدى إلى تضخم مشاعر الإسلاموفوبيا، أي كراهية الإسلام عن جهل به. ولقد بدأت هذه المشاعر تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار الأوروبي من أوضاع الشرق ومن مسار الأحداث التي تتوالى عليه، وذلك في اتجاهين مختلفين. الاتجاه الأول تضخيم قلق مسيحيي الشرق والعمل على تحويله إلى خوف ديني على المستقبل والمصير. أما الاتجاه الثاني، فهو الاستناد إلى مشاعر الإسلاموفوبيا أساساً للتحرك في اتجاه مساعدة مسيحيي الشرق أو الادعاء بمساعدتهم، والسلبيتان لا تصنعان إيجابية، بمعنى أنهما لا تحلان إشكالية مشاعر كراهية الإسلام في الغرب، ولا أشكالية مشاعر القلق من صعود الإسلاميين في الشرق. ولكن إذا كان سلوك بعض الدول الكبرى كالاتحاد الروسي مثلاً، لا يعكس التعلم من تجربة "أخطاء المسألة الشرقية" في القرن التاسع عشر، فإن سلوك مسيحيي الشرق يعكس وعياً قوياً بها، رغم المعاناة التي تعرضوا لها في العراق تحديداً، وإلى حد أقل في مصر. وقد جسد هذا الوعي "السينودس"-(صوت الحقيقة) من أجل مسيحيي الشرق الذي دعا إليه وترأسه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي سوف يزور لبنان في منتصف سبتمبر المقبل لإعلان وثيقة "الإرشاد الرسولي" حول هذه القضية المهمة. وتؤكد الوثيقة على الانتماء القومي لمسيحيي الشرق مع شعوب المنطقة وعلى تكاملهم معها؛ كما تؤكد على احترام حقوقهم في المواطنة وكذلك على احترام حقوقهم الدينية، وهما أمران جوهريان لا تنكرهما أي من الحركات الإسلامية، بل إن بعض هذه الحركات يؤكد عليهما وعلى الالتزام بهما أخلاقياً ووطنياً ودينياً على حد سواء. نظرية عودة الدين إلى الحياة العامة حسب رؤية الفيلسوف الفرنسي الراحل "مارلو" لا تتجسد في الشرق الأوسط فقط، ولكنها تكاد لا تغيب عن أي منطقة أخرى في العالم، حتى في الولايات المتحدة، تلعب هذه العودة دوراً أساسياً الآن في معركة الانتخابات الرئاسية. أما في أوروبا فتكفي الإشارة إلى أن الفريق الوطني البرتغالي لكرة القدم اتخذ "الصليب" شعاراً رسمه على ملابس لاعبيه خلال دورة بطولة أوروبا. يبقى التأكيد على أمر أساسي وجوهري، وهو أن المشكلة ليست في عودة الدين إلى الحياة العامة، بل المشكلة كل المشكلة تكمن في استغلال الدين في الحياة العامة.