في تاريخ صراع السودانيين ضد الحكم العسكري، وقعت حادثتان سيظل الجميع يذكرهما؛ الأولى كانت أيام حكم الفريق إبراهيم عبّود، حيث كانت جامعة الخرطوم ونادي أساتذتها مركز المعارضة الشعبية ضد الحكم العسكري. فقد وجه وزير الداخلية يومها الشرطة بتأديب الطلبة بعنف لم يحدث له مثيل وأمرهم بدخول حرم الجامعة والداخليات، وإطلاق الرصاص الحي، مما أدى إلى استشهاد الطالب القرشي، أول شهداء ثورة أكتوبر الشعبية. وأثار ذلك الحادث غضب الشعب، وأشعل شرارة الثورة، وأدرك الناس أن نظام نوفمبر العسكري وصل مرحلة الانهيار. وقد حكى لي الدكتور التجاني الماحي، وكان جاراً للفريق عبود، أن هذا الأخير جاء لزيارته في منزله بعد حادثة الجامعة، وكان الماحي غاضباًِ، فقال لعبود: إن النظام سقط يوم أدخل الشرطة الجامعة، ثم نصحه أن يعلن بنفسه حل المجلس العسكري الحاكم. ثم كان بعد ذلك ما هو معروف في سجل التاريخ السوداني. أما في الحادثة الثانية، فنجد المشير جعفر نميري يكرر الفعلة ذاتها رغم معارضة بعض وزرائه ومعاونيه. وكانت حادثة شرطة عبود ثم شرطة النميري، مؤشرين إلى أن النظامين العسكريين فقدا كل الأسلحة وأن مناوراتهما السياسية فشلت، وأن لحظة الانهيار دنت، وأن الشعب المغلوب على أمره تجاوز مرحلة الخوف من إرهاب النظام وأدواته الأمنية. تذكرت ذلك، عندما قام نظام البشير، الأسبوع الماضي، بتوجيه الشرطة وقوات الأمن لمحاصرة كلية الزراعة في شمبات. ثم قامت الشرطة بمحاصرة جامعة الخرطوم بكل من فيها من طلاب وأساتذة، ومن بينهم طلاب وأساتذة مؤيدون للسلطة. هذا العمل استنكره علناً النائب الأول للرئيس، وشمل استنكاره وزير الداخلية وقيادة شرطته. أما العنف ضد المتظاهرين المسالمين، فأمره معروف للداخل وللخارج الذي أصبحت بيانات استنكاره تصدر يومياً، لاسيما بعد أن نشرت "العفو الدولية" تقريرها حول السودان. لكن الحكومة أخذت قرارها، والأمر لايحتاج إلى اجتهاد في تفسير العنف ضد الشباب والنساء، وكذلك أحاديث تهديد الناس بإنزال "المجاهدين" للشوارع لمواجهة "شذاذ الآفاق" والعملاء! يجري كل هذا، وموعد جلسة مجلس الأمن الدولي في 2 أغسطس القادم، والمفاوضات بين الخرطوم وجوبا تراوح مكانها. وأنا مع المتخوفين مما تنبأ به الصادق المهدي، من أن نتفاجأ بالتدخل الأجنبي ووضع السودان تحت الوصاية الأجنبية. والأمر رغم سوئه، وكونه ينذر بتدمير ما تبقى من سيادة السودان وكرامته، فهناك من يدعون الله أن ينقذ الوطن والشعب حتى لا تصبح الحرب الأهلية أمراً معلناً. والحل بيد المجموعة المسيطرة على "المؤتمر الوطني". لكن واقع الحال يشير إلى أن هذه المجموعة حسمت أمرها، وقررت أن تحقق القول السوداني "إما قاتل وإما مقتول"، والمقتول هنا، هو من يطالبون بتغيير النظام سلمياً، حفاظاً على دماء السودانيين وأرواحهم وما تبقى من الوطن. ولله الأمر من قبل ومن بعد.