ما إن دخل الرئيس محمد مرسي إلى قصر الاتحادية الرئاسي يمارس مهامه بعد أن أقسم يمين احترام الدستور والقانون، حتى زحفت الجماهير بكافة فئاتها إلى ساحة القصر في شكل مظاهرات حاشدة متنوعة واعتصامات متعددة. وقد لا نبالغ لو قلنا إن التحليل العلمي لهذه المظاهرات يمكن أن يجعلنا نستبصر بالمشكلات الاجتماعية الحادة التي تعانيها الجماهير. ولعل أول ما يلفت النظر أن هناك أولاً مظاهرات سياسية ترفع شعار الإفراج عن المعتقلين والمحكوم عليهم في جرائم متعددة أمام القضاء العسكري. وهذه الشعارات لا يعنيها في الواقع تطبيق صحيح القانون على الوقائع الثابتة ضد المتهمين، وذلك لأن أصحاب هذه الشعارات يرفضون من ناحية المبدأ إحالة المتهمين على المحاكم العسكرية بغض النظر عن ارتكاب بعضهم لوقائع جنائية يستحقون عليها المحكمة والعقاب. ومعنى ذلك أننا نحتاج إلى توضيح مبدأ سيادة القانون من ناحية ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية من ناحية أخرى، إلا لو كانوا قد اعتدوا على المنشآت العسكرية، أو وجهوا أفعالهم غير القانونية ضد أفراد القوات المسلحة كما يقضي بذلك قانون الأحكام العسكرية. ويلاحظ بالنسبة للعديد من هذه القضايا أن المسؤولية عن الأحداث الإجرامية، ومن أبرزها الاعتداء على المنشآت الحكومية، وأبرزها إحراق المجمع العلمي، مشتركة بين بعض فئات الشباب الثائر ومجموعات من البلطجية، وهو ما جعل المواقف القانونية لهم جميعاً ملتبسة. بمعنى آخر؛ فإن هناك بعض شباب الثوار ممن تورطوا في أعمال عدائية يستحقون عليها المحاكمة العادلة أمام قاضيهم الحقيقي. وذلك بسبب واضح، وهو أن الثورة لا تعني الفوضى وأن الاحتجاج السياسي لا يعني قطع الطرق أو ممارسة نوع من أنواع البلطجة. ولو ولينا وجوهنا إزاء أنواع أخرى من المظاهرات الاحتجاجية لوجدناها تتعلق بأوضاع العمال وصراعاتهم مع أصحاب المصانع أو المديرين. وفي هذا المجال نلاحظ أن آليات التفاوض تكاد تكون منعدمة أو غير فعّالة، وهو ما يجعل العمال يغلقون المصانع، ويوقفون الإنتاج حتى يضغطوا على أصحاب المصانع لتحقيق مطالبهم التي قد تكون في بعض الأحيان غير مشروعة أو فيها نوع من أنواع المغالاة الشديدة. والواقع أن هذا النوع من الاحتجاجات قد يتحول -في بعض الأحيان- إلى مظاهرات فوضوية تؤثر سلباً على مناخ الاستثمار. ولذلك فإنه إذا أحس المستثمرون أنه ليست هناك قواعد مقننة في العلاقات بين أرباب العمل والعمال، وأن المظاهرات الاحتجاجية توقف عملية الإنتاج وتصيبهم بخسائر فادحة، فإن هؤلاء المستثمرين قد يحجمون عن دخول مجال الاستثمار، سواء كانوا مصريين أو عرباً أو أجانب. وذلك لأن الاستثمار يحتاج إلى استقرار من ناحية، وبيئة قانونية سليمة من ناحية أخرى، بحيث تحل المنازعات أمام المحاكم بسرعة كافية ويُعطى لكل ذي حق حقه. وهناك مظاهرات يقوم بها موظفون من مختلف الفئات للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، أو للحصول على عدد من المزايا، أو لمساواتهم بنظرائهم، أو طلباً للتثبيت من قبل العمالة المؤقتة، أو طلب التعيين في وظائف ثابتة. وهذه المظاهرات تعكس في الواقع اضطراباً شديداً في التنظيم القانوني لأوضاع العاملين في الجمهورية، وتقصيراً لا حدود له في إعطاء الناس حقوقهم الاقتصادية في ضوء مبدأ تكافؤ الفرص. وقد تابعنا مظاهرات من نوعية خاصة تتعلق بالاحتجاج على الأوضاع الخاطئة في مجال التعيين في الوظائف القضائية، مثل النيابة العامة والنيابة الإدارية ومجلس الدولة. وتتمثل هذه الأوضاع في تجاوز الخريجين من المتفوقين، وتعيين من حصلوا على درجات أقل، إعمالاً للواسطة أو المحسوبية، أو من باب توريث الوظائف حتى لو كان ذلك ضد القانون. والواقع أنه لابد من إصلاح وظيفي شامل يقوم أساساً على مبدأ تكافؤ الفرص، لأن في ذلك إعمالاً حقيقياً لمطلب العدالة الاجتماعية الذي نادت به ثورة 25 يناير. ونجد أخيراً مظاهرات سياسية ترفع شعارات تطلب فيها إبطال قوانين معينة، مثل الإعلان الدستوري المكمل، أو ترفض فيها حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب، أو تحتج فيها على نتائج انتخابات الرئاسة. وفي هذا المجال يمكن القول إن ثقافة الاحتجاج السياسي تحتاج إلى ترشيد شديد. وذلك لأنه يسود في الدولة الديموقراطية مبدأ سيادة القانون واحترام الأحكام القضائية. ومن ثم حين تخرج مظاهرات سياسية تحاول من خلال مطالباتها خرق مبدأ سيادة القانون، أو تخرج للاحتجاج على أحكام قضائية، مع أنها تعد هي عنوان الحقيقة، ففي ذلك عدوان خطير على الديمقراطية ذاتها. ونستطيع أن نؤكد أنه إذا كان لا يمكن أن توجد ديمقراطية بغير عدالة اجتماعية، فكذلك لا يمكن أن توجد ديمقراطية بغير احترام شديد لمبدأ سيادة القانون وللأحكام القضائية. ومن هنا يمكن القول إن الشرعية الثورية، وإن كانت لها مبرراتها، سواء يوم اندلاع الثورة، أو فيما تلا ذلك من أحداث، فإنه ينبغي أن تخلي الطريق بالتدريج أمام الشرعية الديمقراطية، فذلك سيكون علامة دالة على تحول الثورة إلى الدولة القانونية في ظل الديمقراطية. بعبارة أخرى؛ نحن في حاجة ماسة لإعادة صياغة الثقافة السياسية في مصر. ويتضمن ذلك بالضرورة تبني برامج معدة بصورة منهجية لرفع الوعي القانوني لدى النخبة والجماهير على حد سواء، بالإضافة إلى تنظيم حوارات مفتوحة لغرس القيم الديمقراطية لتكون أساساً للسلوك السياسي والاجتماعي والثقافي.