فن إدارة الاختلاف بما يضمن التفاهم ويعزز الاستقرار ويدفع الناس للتفاني في العمل والإخلاص في تنمية المجتمع، هو جوهر السياسة الناجحة، أما التأزيم والتصعيد وتحدي القضاء والتدخل في السلطات والعنتريات الفارغة، فهي أمور بعيدة عن مقتضيات السياسة الرشيدة، ومن هذا المنطلق، فإن القرار الذي اتخذه الرئيس المصري محمد مرسي بعودة البرلمان المنحل والدعوة لانعقاده، يعد قراراً سياسياً خاطئاً بكافة المقاييس، كما أن مسارعة مجلس الشعب المنحل لعقد اجتماع يتيم، واتخاذ قرار باطل باللجوء إلى محكمة النقض للنظر في صحة عضوية نوابه، قرار آخر خاطئ سياسياً وقانونياً، وحسناً فعل الرئيس المصري في مسارعته إلى تصحيح خطئه، وإعلانه احترامه لحكم المحكمة الدستورية العليا القاضي بحل مجلس الشعب المصري بسبب بطلان القانون الذي جرت الانتخابات البرلمانية على أساسه، كما أن إشادته بقضاة مصر الشرفاء مما يحسب له. ولكن السؤال هنا: لماذا اندفع الرئيس المصري وفي أول قراراته السياسية إلى تحدي المحكمة الدستورية العليا، وهو الذي أقسم اليمين الدستوري أمامها باحترام الدستور والقانون؟! يرى البعض أن ما أقدم عليه الرئيس مرسي هو نوع من إثبات الذات وعرض للقوة وتعزيز للسلطة والصلاحية، ولكن القضاء ليس طرفاً سياسياً ينازع الرئيس سلطته وليس خصماً يسعى لكسب القضية والشهرة والجماهيرية، والقضاة في أعمالهم لا يبتغون مدحاً ولا ذماً، الحق رائدهم والعدالة هدفهم وهم لا يدخلون في معارك مع أي طرف، كما أنهم لا يتأثرون بضغوط السلطة التنفيذية ولا يتملقون أهواء الشارع السياسي، فهم في غنى عن كل هذه الأمور، فلماذا يتحداهم رئيس الجمهورية في أول قرار جمهوري؟! في تصوري، أن ذلك خطأ المستشارين القانونيين الذين زينوا للرئيس ودفعوه لهذا القرار الخاطئ، ولا يدهشنا هذا الأمر، بدليل أن رئيس مجلس الشعب ومن معه من الأعضاء النواب وهم يشكلون نخبة المجتمع المصري، وفيهم قانونيون بارزون، اتخذوا قراراً خاطئاً باللجوء إلى محكمة النقض، وهم يعلمون يقيناً بأن المحكمة غير مخولة بالنظر في قرارهم بعد صدور الحكم من المحكمة الدستورية العليا. وبالفعل قد أصدرت محكمة النقض قرارها القاضي بعدم الاختصاص لأنها ليست صاحبة ولاية على حكم المحكمة الدستورية العليا، وهي ملزمة بتطبيقه كبقية مؤسسات المجتمع بما فيها مؤسسة الرئاسة، وقالت المحكمة إنها تختص فقط بالفصل في مدى صحة عضوية نائب من النواب في البرلمان وليس صحة عضوية النواب جميعاً... كيف غاب عن هؤلاء وهم الصفوة، هذا الأمر القانوني المعروف للكافة؟! إنها الأهواء السياسية والمصالح الحزبية الضيقة وشهوة الاستئثار بالسلطة لا غير، فجماعة "الإخوان" لها هيمنة على المجلس الحالي، إذ يشكل "الإخوان" ومعهم السلف غالبية أعضاء المجلس المنحل، وهم يرون أن حظوظهم في الانتخابات القادمة لن تكون كبيرة، فالشعب الذي انتخبهم للمرة الأولى نتيجة ظروف سياسية في الانتخابات الماضية، لن يصوت لهم بكثرة في الانتخابات القادمة وخاصة بعد أن وصل أحد قياداتهم إلى سُدّة الرئاسة، لن يرضى الشعب المصري أن يستحوذ "الإخوان" على السلطتين التنفيذية والتشريعية، فذلك يخل بالتوازنات السياسية ويشكل تهديداً للديمقراطية. ولعل الدرس الأكبر الذي يخرج به الرئيس المصري من هذا القرار الخاطئ، هو عدم التسرع في إصدار قرار غير مدروس، لا جدوى منه، غير إضاعة الوقت وجلب غضب القوى السياسية والرأي العام وتشتيت الجهود عن السعي لتحقيق النجاح في مجال الإصلاح الاقتصادي وإعادة دوران عجلة الإنتاج والتنمية، وهو التحدي الأكبر الذي يواجهه الرئيس وجماعة "الإخوان" في مصر، وهو الذي يجب أن يكون ميدان "الجهاد الأكبر". على الرئيس المصري توجيه الجهود نحو جهاد التنمية والإنتاج وتوفير فرص العمل لملايين الشباب العاطلين، لا مجاهدة القضاء المصري النزيه والشامخ! وبمقدار خطأ الرئيس في الداخل، فإنه كان موفقاً في الخارج بزيارته للمملكة العربية السعودية لتعزيز العلاقة معها، والمهم أيضاً، أن يعزز الرئيس الجديد علاقة مصر بواشنطن سياسياً واقتصادياً، لأنه من شروط النجاح الاقتصادي في عالم اليوم إقامة علاقات جيدة بالخارج عربياً ودولياً. الاستدراك السريع للخطأ من قبل الرئيس المصري، أمر محمود، والأجمل أن يعد الرئيس الشعب المصري بعدم تكرار مثل هذا الخطأ، أو الاعتذار ثم محاسبة مستشاريه القانونيين وأخذ الحذر منهم، إذ ليس مما يشرف أي رئيس دولة أن يبدأ حكمه بمخالفة أحكام القضاء وتحدي السلطة القضائية وإثارة المخاوف من نزعة الاستحواذ على السلطة واحتكارها. ولا يُقبل من "الإخوان"، وبخاصة زعيم الأكثرية في البرلمان المنحل، تصريحه المتكرر: "نحذر من تسييس القضاة لأحكامهم"، فالقضاء المصري محصن أمام التسييس، فعلى "الإخوان" الكف عن التعريض بالقضاء أو التشكيك بالقضاة، فهو عمل غير أخلاقي وكذلك تظاهرهم ضد القضاة، فهذا إرهاب سياسي مجرّم قانوناً، إذا كان الحكم لمصلحتهم أشادوا ومجدوا وهللوا، فإذا انقلب عليهم نددوا واستنكروا وهاجموا وجرّحوا! عجيب أمر هؤلاء! ترى من الذي دفع الرئيس المصري للتراجع عن خطئه وإعلانه احترام حكم القضاء المصري؟ إنه انتفاضة الشعب المصري ضد قراره، إذ قرر نادي قضاة مصر وممثلو الهيئات القضائية ونقابة المحامين إمهال الرئيس مرسي 36 ساعة للتراجع، وطالبوا بالاعتذار الصريح للشعب المصري وللأسرة القانونية والسلطة القضائية، لما حدث من امتهان للقضاء وتهوين من أحكامه، كما قامت القوى الوطنية بمختلف قياداتها الليبرالية واليسارية والقومية باتخاذ مواقف قوية وصريحة ضد قرار رئيس الجمهورية المتجاوز لصلاحياته، وذلك دفاعاً عن القضاء، حصن العدالة والملاذ الآمن للمظلوم والمضطهد وقلعة الحريات وإحقاق الحق، هذه الوقفة الجماهيرية هي التي أجبرت الرئيس وجماعة "الإخوان" على التراجع، لكن الرئيس لم يعتذر، لأن "الإخوان" لا يعتذرون طبقاً لما قاله مرشدهم السابق! اعتذار الرئيس للشعب وللقضاء في ظل هذا الظرف السياسي له دلالات كبيرة، ولو كنت مكانه لاغتنمت هذه الفرصة وقدمت الاعتذار الجميل. اعتذار الرئيس اليوم يبدد المخاوف ويجدد الثقة، ويحبب الناس فيه ويثبت أن "الإخوان" يتغيرون ويتطورون ويتجاوزون، ويلعبون السياسة بحسب أصولها... فهل يعتذر الرئيس؟!