تروي لنا الأدبيات العربية أنّ الغُراب فُتِنَ بالطريقة التي يمشي بها الطاووس، فأراد تقليده ليالي وأياماً فلم يُفلِح في مسعاه، حتى إذا يأس من تلك المحاولات المضنية وأراد العودة إلى مشيته الطبيعية، فلم يقدر أيضاً لأنه نسي كيف كانت مشيته قبل محاولات تقليد الطاووس، فبقي حتى يومنا هذا يمشي بتلك الطريقة المثيرة للشفقة والسخرية! منذ نعومة أظفارنا في مراحل التعليم حتى نهايتها ونحن كالإسفنجة التي تتشبّع وتكبر يومياً كلما ابتلّت، فعشرات النظريات ومئات الأحداث كان من الواجب حفظها عن ظهر قلب، ولا زلنا حتى الساعة نستحضر شطراً من تلك الأمور، والتي لا أبالغ إن قلت إن جُلها معدومة الفائدة، لأنه لا رابط بيننا وبينها لا تاريخاً ولا مكاناً ولا تبدو هناك من وشيجة فيما بيننا وبين ما أفرزها! لستُ هنا في محاولة لمهاجمة أحد أو الترصد لجهة، ولكنها صرخة استغاثة أتمنى أن لا تكون متأخرة وأن يكون من المتيسر تداركها قبل أن نرى أنفسنا دون هويةٍ حقيقية، ونشاهد أجيالنا القادمة والتي نُراهن عليها لرفعة البلد تائهة بين جستن بيبر وجون سينا وميسي وليدي غاغا، كل ذلك لم يكن ليحدث لولا قصور مناهجنا التعليمية وعزوفها الغريب عن الهوية الإماراتية وتراث وتاريخ وسير أعلام هذا الوطن! عرفنا عن الكولوسوم وقصر الحمراء والبيت الأبيض والكريملن لكننا وللأسف لم نقرأ شيئاً عن قصر الحصن بأبوظبي أو قلعة الجاهلي بالعين، ووقفنا على الفارق بين صحراء كلهاري والصحراء الكبرى ولم نتعلّم شيئاً عن صحراء المنطقة الغربية، وعرفنا ما يميّز سهول السلفاس عن سهول البامباس ولم نعرف شيئاً عن سهول غياثي وملاقط والذيد، وعرفنا طبيعة جبال الأنديز ولم نعرف طبيعة جبل حفيت، وقرأنا عن الحضارة البابلية والآشورية، ولم تُشِر مقرراتنا الدراسية لحضارة ملوخيا وماجان في بلادنا، وعرفنا أهرام الجيزة وما يُفرّقها عن أهرام المايا والأزتيك ولم يُخبرنا أحد بمدن قديمة كاملة في هيلي وأم النار ومليحة، وتعلمنا تفاصيل وعد بلفور وسايكس بيكو وقانون حمورابي، لكننا لم نقرأ حرفاً عن وثيقة اتحاد عام 1971 ولا عن دستور الدولة، وعرفنا بلفور وروميل وهتلر وهولاكو وكريستوفر كولمبوس وماجلان وغيرهم لكننا لم نتعلّم اسم شخصٍ واحد من أعلام بلدنا بمن فيهم زايد الكبير رحمه الله ! هذا (التفريغ) الغريب للهوية الإماراتية وإلغاء كل رموزها وحدودها وهيئتها وكياناتها الحضارية والاجتماعية والأدبية أمرٌ لا يمكن القبول به لمجتمع يحترم تاريخه ويعرف أنه يقف على أرضيةٍ صلبة، وليس مجتمعاً هُلامياً دخل للساحة بالخطأ أو في غفلةٍ من الزمن، فوجود دولةٍ متقدمة كالإمارات الحبيبة لم يكن نتاج (خاتم سليمان)، ولا أُعطية من جهةٍ أخرى تمتنّ علينا ببخس تاريخنا حقه، بل هي دولة قامت على تضحيات ومجهودات ودماء وعرق قبائل وعشائر ضاربة في القدم، كافحت وناضلت هجمات الفرس والبرتغاليين ومن بعدهم الإنجليز وبعض دهماء العرب، فهذا الكيان العربي المُعتّق هو ما أخرج لنا زايد بن سلطان رحمه الله تعالى وإخوانه المؤسسين، والأرض الصالحة يخرج نباتها صالحاً بإذن ربها. هنا قد يكون من غير المفيد التباكي على ما مرّ من تقصير مجحف بحق بلدنا، ومن المضيع للوقت أكثر التراشق بالاتهامات بين الأطراف المتداخلة وتفويت الفُرص والأيام دون وضع خطة تصحيح شاملة للحفاظ على إطار الهوية الإماراتية بجميع تفاصيله، وهنا أقصد غربلة تلك الكتب والمقررات الدراسية وإفراد تاريخنا وتراثنا وسير أعلامنا وأيامهم المشهودة بحيث تحظى بنصيب الأسد من صفحاتها، وأن نرى مراكز بحثية متخصصة ومتعاونة بدل ذلك التشتت الغريب والذي يغني فيه كلٌ على ليلاه، غافلين أنهم بذلك التشتت والتكرار ينسلخون من أهم مبادئ الدولة التي قامت عليها ألا وهو الاتحاد وتكامل الجهود لا تنافرها وتنافسها فيما بينها! من المهم أيضاً أن نتوقف عن ذلك الامتهان (غير المقصود) لإرث هذا البلد عندما يقصره البعض على مجموعة من السيدات كبيرات السن يقمن بطبخ (الفريد واللقيمات وخبز الرقاق) ورجلٌ طاعنٌ في السن يمرّ بين الزائرين لما يُسمى بالقُرى التراثية بناقته وعصاه تلوح في يده، وهي أمور لا نشك بكونها جزءاً من فسيفساء الثقافة المحلية سابقاً، لكنها ليست كل شيء، بل وليست أهم شيء منها، وإن حصر صورة ماضينا في تلك الأمور البسيطة هو تسطيحٌ مرفوض لإرثٍ غنيٍ بتفاصيله ومفرداته، لكنه للأسف لم يجد إلا بعض الهواة الذين لا يريدون أن يبذلوا جهداً حقيقياً لعكس تلك الثقافة وتلخيص ذلك التاريخ في قالبٍ جدير بالتقديم والعرض. تاريخنا وموروثنا ليس أمراً هامشياً يُترك لمن أرد الظهور إعلامياً ليصعد على أكتافه بطرحه السطحي ونطاقه الضيق، بل لا بد أن يوكل ذلك لمختصين وباحثين مشهود لهم بسعة الاطلاع والنضج لنضمن تقديم مخرجات بحثية وإعلامية عالية الجودة وكبيرة القيمة، ومالم يتم ذلك وبتلك الصورة وإلا فإننا لن نعدو أن نكون كذلك الغراب الذي نسي مشيته!