لعبة شد الحبال، أو بالأحرى "كسر العظم"، بين المجلس العسكري وجماعة "الإخوان المسلمين"، لن تفيد أحداً، والأهم أنها لن تفيد مصر الدولة والشعب. للأسف، يبدو المشهد الحالي كما لو أن الشهور التي مضت منذ "ثورة 25 يناير" مجرد وقت ضائع أمكن التعرف خلاله على ما بين النخب من خلافات أكثر مما استغل لبلورة توافقات. هناك نظام جديد يجب أن يتشكل، لكن الفرص تتبدد أمامه، وأصبح مفهوماً أنه لم يعد متاحاً لطرف واحد أن يفرض مفاهيمه. كانت الثورة أفلحت في إطاحة ما استطاعته من النظام السابق ورموزه، أما ما بقي منه فلا يعالج بـ"استمرار الثورة" أو بـ"ثورة أخرى" وبالأسلوب ذاته، بل يستلزم عملاً دؤوباً لتفعيل المؤسسات والانكباب على التغيير من خلالها. فالاعتماد على الوجوه الجديدة، لأنها جديدة فحسب، ولأنها متعطشة للسلطة والحكم، لا يكفي وحده. ولعل التخبط في تحديد الأولويات غداة الثورة هو ما آل إليه الوضع الآن، رغم مرور استحقاقات الانتخابات. ويعلم الجميع الآن أن الحلقة الناقصة لتأمين الخروج من المهمة الانتقالية اسمها الدستور. فهو ما يعوّل عليه لصنع توافق وطني جديد. عندما يتردد كل يوم تقريباً أن في ما يحصل تراجعاً عن الثورة أو تجاوزاً لها، فهذا يفترض أن تكون الثورة بمختلف أطيافها توصلت فعلاً إلى وضع معايير موحدة تلتف حولها فئات الشعب كافة. لكن هذا لم يحصل، إذ شهد الرأي العام المصري تقلبات عدة لاحت أولى مؤشراتها منذ الاستفتاء على الدستور المعدّل في مارس 2011، وصولاً إلى التجاذب الحالي حول قرارات المحكمة الدستورية والإعلان الدستوري المكمّل. وطوال المرحلة الانتقالية، المستكملة والمستمرة، كانت هناك حاجة ماسة إلى حوار، استشعرها الأزهر وحاول تلبيتها، ثم تبين أن الوضع ما بعد الثورة قفز بسرعة إلى صراع بين المجلس العسكري و"الإخوان" باعتبارهما القوة الوحيدة المنظمة على المسرح السياسي. وفيما لا تزال هناك أصوات تدعو إلى الحوار، الذي كان يجب أن يجري في وقته الطبيعي، يتبين أيضاً أن "المجلس" و"الإخوان" يميلان إلى تفاهماتهما العابرة والمتقطعة رغم انعدام الثقة والقواسم المشتركة بينهما. في محاولة لفهم ما يعنيه الداعون إلى "استمرار الثورة" قد يقود سياق التفكير إلى أنهم يريدون عملياً تفكيك كل المؤسسات وإعادة بنائها من نقطة الصفر. ثمة من يحاجج بأن هذا هو منطق الثورات، وربما يصحّ ذلك جدلاً، أو لعله صح في بعض الحقب التاريخية، أو أن الظروف اقتضته. لكن الشعوب هي التي تصنع الأنماط في ضوء مصالحها، وليست الأنماط هي التي تسيّر الشعوب. لذلك لم يكن متوقعاً في مصر، ولا هو في المصلحة، أن تترك لحكم الشارع أو لنزاعات النخب والأحزاب. هناك حقيقة مؤلمة انبثقت من تجربة الانتخابات الرئاسية، حقيقة ينبغي ألا تُنسى، وهي انقسام البلد إلى نصفين شبه متساويين. لم تعد مصر واقفة بين عهدين، وإنما أصبحت بين شعبين. وهذا تحدٍ لا سابق له يتوجب التعامل معه، وهو أكبر وأكثر خطورة من الصراع بين المجلس العسكري و"الإخوان"، إذ يضع الجميع إزاء المسؤولية الوطنية. لا خلاف على أن السلطة يجب أن تنتقل إلى المدنيين وبالوسائل الديمقراطية، تحديداً على مستوى رأس السلطة. لكن الانقسام الحاد طرح علامات استفهام حول مدى "جهوزية" أولئك المدنيين حتى لو كانوا منتخبين. هناك خشية مشروعة من أن تكون مصر تحررت من حكم إقصائي لتقع في حكم إقصائي مضاد. كانت الانتخابات التشريعية كسرت لتوّها جدار التمييز والإقصاء، لكن البرلمان لم يأت متوازناً وعاكساً لواقع المجتمع كما أظهّرته انتخابات الرئاسة. ولا شك أن جنوح البرلمان ومبالغاته ساهما في صنع الانقسام الحالي. في ظل برلمان منحل بحكم قضائي، وإعلان دستوري يقيّد صلاحيات رئيس منتخب، و"لجنة تأسيسية" غامضة المسار والمصير، كان من الطبيعي أن يبدأ التجاذب باكراً لأن معظم السلطة بقي في كنف العسكريين. والأكيد أن الأزمة الراهنة نتجت عن سلسلة من الأخطاء والمعالجات العشوائية، لكن الضغط على القضاء من الجانبين لن يأتي بحل سوّي، كذلك الاحتكام إلى الشارع. وأسوأ ما في هذا الصراع أن طرفيه يخوضانه استناداً إلى معادلات القوة التي تؤجج الانقسام الاجتماعي ولا تعالجه.