في محاضرة ألقاها الأستاذ والمفكر اللبناني غسان سلامة بمناسبة انعقاد مؤتمر "وزراء المال العرب"، في حفل غذاء حضرته العديد من الشخصيات العربية في 18 مايو 2004 جاء على لسانه وهو في صدد الحديث عن ضرورة خلق عقد جديد بين الدولة والمجتمع أن الحكومات العربية عليها الخروج من مأزقها المتفاقم بين مطرقة الخارج وسندان المجتمعات، إذ دأبت الأنظمة في كل مرة خيرت فيها بين الرضوخ للضغط الخارجي والاستقواء بمجتمعاتها، على تفضيل التنازل للآخر بدلاً من التنازل لأهلها، لذا علينا البدء بقلب هذه المعادلة، والتنبه إلى أن الدول باتت قوية أساساً، لا بأسلحتها، ولا بنفطها، ولا بتحالفاتها الخارجية، بل بتماسك مجتمعاتها، وبمدى تفاهم الدولة والمجتمع على الأهداف العليا للوطن... لذا يتضمن العقد بالضرورة حقوقاً للدولة على المجتمع في حماية الاستقلال السياسي والمالي والثقافي، ولكنه يتضمن أيضاً واجباً على الدولة باعتبار المجتمع شريكاً، له الحق في مساءلة الدولة على خياراتها (...). لقد رأينا دولاً تتنازل للخارج عن الكثير في مقابل حماية أنظمتها. وقد شاعت هذه الظاهرة أخيراً، فتعددت الأمثلة وعظمت التنازلات...فهل نبقى على هذا المنوال، أم نفهم أن الخارج يحصل على هذه التنازلات الموجعة دون أن يتمكن من تقديم الضمان الحقيقي لبقاء النظام، وربما دون أن يرغب في ذلك؟ هل بتنا نستهين التخلي عن عناصر واسعة من سيادتنا كي لا نعطي شيئاً من المشاركة الحقيقية لمجتمعاتنا؟ هل أن الرضوخ لمطالبة الخارج، بات أسهل علينا من تبني الديمقراطية والمشاركة السياسية واحترام حقوق شعوبنا؟ إنها المعادلة الأولى التي تحتاج قبل غيرها إلى انقلاب مفهومي عميق.... هذا الكلام الذي قيل منذ أزيد من ثمان سنوات يجد مكاناً له اليوم في العديد من المجتمعات العربية، فالثقة بين الدولة والمجتمع والتي شهدت في العقود القليلة الأخيرة انخفاضاً حاداً بكل المقاييس المتوافرة، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح ضريبي من النجاح إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد بادرت إلى الاستقواء بمجتمعاتها كي تقاوم معه، وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل، وكي تثبت معه ركائز عقد جديد بين الدولة والمجتمع وتقوي تماسك اللحمة الحامية للدولة من مؤسسات وأحزاب ومجتمع مدني بناء على قواعد جديدة عكس ما نراه في دول ما بعد "الربيع العربي". الديمقراطية هي إقرار بحقوق الإنسان، وإقرار بالنظام الدستوري لممارسة السلطة، وإقامة الحياة السياسية انطلاقاً من التعددية السياسية، وإقرار بالنظام التمثيلي والنيابي، ثم فتح المجال السياسي أمام إمكانية التداول السياسي على السلطة، وهي تشكل في مجموعها كلاً لا يقبل التجزئة أو الانتقاء وإلا بقيت الديمقراطية عرجاء وغير متكاملة وقد تتلاشى رويداً رويداً إلى أن تعوضها سلطوية سياسية أخرى مجسدة في أشكال أخرى غير تلك التي عرفتها السلطوية الأولى المنهارة. ولكن بعد هذا وذاك، هناك أمر آخر لصيق بالديمقراطية يجهله العديد من الخاص والعام، وهو الذي يعطي الوقود الضروري والنقي لهياكل الديمقراطية، ألا وهو التعاقد على منظومة من القيم والقواعد التي تنظم المجتمع السياسي، فلن تجد هذا المبدأ في الدساتير المكتوبة، وإنما تكتب الدساتير في ضوء معالمها ومبادئها حيث تجعل السلطة ملكية عمومية ومجالاً للمشاركة وأداة من أدوات التداول الحر، وتجعل المواطن يشعر كباقي المواطنين بحق التمتع بمداخيل وعائدات توزيع السلطة السياسية، والمشاركة الحقيقية في إدارة الشأن العام بحسب شواهدها ومستوى كفاءاتها وموقعها في التوازن العلمي والمجتمعي العام. في العصور السالفة، كانت الحقوق السياسية في المواطنة في أوروبا من تصويت وتمثيل مقصورة على الطبقة البورجوازية، ولم تكن بذلك حقاً من الحقوق العمومية، كما لم يكن في إمكانية ممثلي العمال دخول البرلمانات بل إن المرأة الفرنسية قبل أزيد من نصف قرن لم يكن لها حق التصويت! بمعنى أن هذا الإقصاء كان نوعاً من العبث بالحق العام، وفصلاً من فصول الاحتكار إلى أن حصلت التنازلات التي تسمح بخلق دمج الجميع في المجال السياسي العام والمشاركة من داخله انطلاقاً من منظومة من القواعد والقيم التي ولدت الاتفاق والتعاقد، واللذين ولدا بدورهما مشتركات اجتماعية وسياسية لا يمكن أن تتجزأ، وأن تنتهك حرماتها ممن يظفر بأغلبية تمثيلية... إنه العقد الاجتماعي الجديد بين الدولة والمجتمع الذي يجعل الفرد يبقى داخل المجال السياسي العام، ونعرف جميعاً ما وقع في لبنان عندما غلبت مأسسة الولاءات الجزئية على مصلحة الدولة، فإن اللبنانيين أساءوا إلى الفرد، حينما حشر، رغماً منه في هويته الطائفية، التي قد لا تعني له دائماً شيئاً يذكر... كما نعرف جميعاً ما يقع اليوم في بلدان ما بعد الموجة الأولى من "الربيع العربي" عندما لا يتفق اللاعبون داخل المجتمع السياسي والمجال العام من شباب الثورة والعسكر والأحزاب الإسلامية والأحزاب السياسية الأخرى كما هو شأن مصر على المشروع المجتمعي المشترك... أخاف أن تتحول صناديق الاقتراع إلى أدوات للتغلب والاستيلاء وليس للتمثيلية والتنافس البناء، كما أن استعمال الخزانات الدينية والثقافية والطائفية في المجال السياسي العام لا يساعد على خلق نموذج وبرنامج سياسي واقتصادي ومجتمعي معارض لما هو في الحكومة، لأنه سيكون ضد هوية وليس ضد برنامج مما سيحدث لامحالة بلبلة داخل المجتمع. إن الديمقراطية بمبادئها الخمسة التي تحدثنا عنها في البداية محدثة لشرعية سياسية، ولكن تستلزم في نفس الوقت تعاقداً جديداً بين الدولة والمجتمع قوامه مشروع مجتمعي متكامل وعلى مبادئ الدولة والنظام السياسي.