"إننا نقدم هذه البلدة للأمة الصربية... فقد حان الوقت للانتقام من الأتراك". بعد سبع عشر سنة، مازالت هذه الكلمات عالقة في الهواء مثل غاز سام فوق سربرينيتشا. فبهذا الخطاب، أعلن جنرال صرب البوسنة "راتكو ميلاديتش" حكم الموت على أكثر من 8 آلاف رجل وفتى من مسلمي البوسنة. وفي الحادي عشر من يوليو 1995، بدأت المذبحة حيث قام جنود صرب البوسنة الموالون لميلاديتش بملاحقة وتعذيب وقتل سكان سربرينيتشا الذكور في البوسنة والهرسك، التي كانت الأمم المتحدة قد أعلنتها "منطقة آمنة" للمدنيين المسلمين. وقام الصرب بطرد النساء والأطفال، وفصلوا المراهقين من الأبناء بوحشية عن أمهاتهم المنتحبات. وبُررت الوحشية الاستثنائية لأعمال القتل بقصة وقعت قبل 200 سنة. في سربرينيتشا التي كانت قد تعرضت للغزو للتو، أشار ميلاديتش إلى انتفاضة الصرب في 1804 ضد الإمبراطورية العثمانية. وكان "الأتراك" قد تمكنوا من إخماد الانتفاضة في 1813، مقوين بذلك وضع الضحية الذي يشعر به الصرب في هويتهم الوطنية. ولكن وفي عملية تحويل غريبة ومميتة معاً للأسطورة التاريخية، صوَّر ميلاديتش مسلمي البوسنة في القرن العشرين على أنهم الهدف المشروع لمظالم الماضي المتصوَّرة، وأن أي عمل ضدهم هو بمثابة "انتقام من الأتراك". والحال أنه لا يوجد خطاب وطني أخطر من خطاب الضحية. الشهر الماضي، كنتُ في سربرينيتشا عندما سمعت لأول مرة خطاب ميلاديتش في شريط فيديو مؤلم ومحزن داخل مصنع مهجور كان يقوم مقام مقر لقوات حفظ السلام الأممية. وإلى هناك، لجأ في عام 1995 نحو 5 آلاف مسلم مرعوب طلباً للحماية. كنت واقفة لوحدي في الفضاء الرطب الذي يتردد فيه الصدى والمسكون بأشباح اللاجئين. واليوم، بات هذا المصنع يشكل جزءاً من النصب التذكاري الرسمي للمذبحة. والواقع أن وعيد ميلاديتش بالانتقام لا يمثل سوى 20 ثانية من الفيديو، غير أن مشاعر الكراهية والحقد التي تنضح بها كلماته جعلت شعوراً بالخوف يتملكني. والشر له ذلك التأثير. ولاحقاً، وأنا واقفة في موقع دفن رجال وأولاد سربرينيتشا، تساءلتُ حول كيف غيَّرت قصة النصب التذكاري خطابات الصرب. ولكن الجواب هو: إنها لم تغير شيئاً. فميلاديش يخضع اليوم للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. ولكنه لم يُبد حتى الآن أي ندم عن أفعاله. على أنه ليس الوحيد في ذلك. فهذا السياسي رادوفان كاراديتش من صرب البوسنة، وهو متهم آخر يحاكم في المحكمة الجنائية الدولية، ينكر بشدة دوره القيادي في أعمال القتل. ومن جانبه، يرى الرئيس الصربي المنصَّب حديثاً، "توميسلاف نيكوليتش"، أنه لم تحدث أي إبادة جماعية في سربرينيتشا. كما أن الكثير من صرب البوسنة يعتبرون ميلاديش بطلاً، وضحية لظلم دولي. إن المحكمة الجنائية الدولية ستصدر حكمها على نسخة ميلاديتش من التاريخ. والاتحاد الأوروبي سيقرر ما إن كانت صربيا التي تنكر الإبادة الجماعية تستطيع خطو خطوة إضافية للاقتراب من عضوية الاتحاد. والولايات المتحدة ستختار ما إن كانت ستواصل برامج تدعم الديمقراطية الليبرالية في البوسنة أم لا. غير أنه في كل تلك القرارات، فإن الانسجام والوئام بين سكان المنطقة يتوقفان على القصص التي سنحكيها حول الفظاعة التي كانت سربرينيتشا مسرحاً لها. _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ سارة كنيون ليشر كاتبة وأكاديمية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة إم سي تي إنترناشيونال