منذ عقدين، وتحديداً في آخر مرة تعرض فيها نظام العملة الأوروبية لأزمة وضعته على حافة الإفلاس، كان السؤال السائد هو: ما مقدار الجهود التي ستبذلها ألمانيا -صاحبة أكبر اقتصاد في القارة- من أجل إنقاذه. كان أمام البنك المركزي الألماني(البوندسبنك) في ذلك الوقت خياران: إما الاستمرار في اعتماد معدلات فائدة مرتفعة مما يعزز من قدرته على الوفاء بالمحافظة على استقرار الأسعار، أو تخفيض معدل تلك الفائدة والقبول بتضخم معتدل من أجل إنقاذ باقي أوروبا من ركود ممتد. وفي ذلك الوقت رفض "البوندسبنك" الاقتراحات الداعية للمخاطرة بحدوث تضخم من أجل الوحدة الأوروبية وفضل الخيار الآخر. واليوم، وبعد عشرين عاماً على ذلك التاريخ، ينتظر العالم إجابة جديدة على نفس السؤال: إلى أي مدى يمكن لألمانيا أن تذهب لإبقاء أوروبا موحدة؟ وسواء كانت منطقة اليورو قد بدأت تتشظى بالفعل أم أنها على وشك ذلك، فهناك شيء واحد مؤكد هو أن ألمانيا، ومنذ أن بدأت الأزمة، كانت لديها القدرة على إنقاذ الاتحاد المالي لو أنها راغبة، وأن تفكك الاتحاد سوف يكون بمثابة كارثة اختيارية. وكي نرى كيف كان من الممكن تجنب أزمة اليورو، علينا أن نعود قليلاً في التاريخ لندرك سبب القوة الهائلة التي تتمتع بها البنوك المركزية في عالم اليوم. حتى الحرب العالمية الأولى، كانت اقتصادات الدول المتقدمة مرتبطة بـ"قاعدة الذهب"، أي أنه لم يكن بمقدور البنوك المركزية في حينه طبع النقود كيفما شاءت، وبأي كمية أرادت، حيث كان مقدار النقد المصدر من قبل البنك المركزي يتوقف على مقدار الغطاء الذهبي لذلك الإصدار. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظلت مطابع البنوك مقيدة الحركة بسبب نسخة مخففة من قاعدة الذهب، وبسبب الخوف من حدوث تضخم. لكن استخدام العملات الورقية أوالنقود المحددة قيمتها بموجب مراسيم أو قوانين حكومية، ومعاناة العديد من الاقتصادات من الانكماش، أدى عبر السنين، إلى تغيير قواعد تلك اللعبة، وهو ما كان يعني أن النقود لم تعد مرتبطة بقاعدة الذهب ولا بأي رباط آخر متين، وبالتالي بات من الممكن طبع أي كميات منها بواسطة البنوك المركزية، إذا ما رأى التكنوقراط أن ذلك الأمر مطلوب. وهذه القوة الهائلة للبنوك المركزية تبدت في أوضح صورها عندما بدأت الأزمة المالية العالمية بانهيار بنك الاستثمار الشهير "ليمان براذر"، وشركة "إيه آي جيه"، أكبر شركة تأمين في العالم، حيث قام "الاحتياطي الفيدرالي" (البنك المركزي الأميركي) بضخ حوالي 1.5 تريليون دولار في صورة تمويل طوارئ للأسواق، وهو مبلغ هائل مقارنة بـ700 مليار دولار قيمة حزمة الإنقاذ التي قدرها الكونجرس في البداية، من خلال "برنامج تخفيف الأصول المتعثرة" للخروج من تلك الأزمة. شيء مثل هذا حدث في الجانب الآخر من الأطلسي، عندما تم تأسيس "مؤسسة الاستقرار المالي الأوروبي"، وهي صندوق مالي برأس مال قدره 440 مليار يورو لمساعدة أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين يواجهون أزمات مالية. وفي هذا الإطار قام البنك المركزي الأوروبي بتقديم 489 مليار يورو لبنوك القارة المريضة. وفي فبراير الماضي كرر البنك هذه المأثرة بتقديم مبلغ مقارب، ما يعني أنه تمكن من توفير ضعف المبلغ المخصص لـ"مؤسسة الاستقرار المالي الأوروبي" عبر مطابع النقود. إن هذا الدعم الجبار من جانب البنك المركزي الأوروبي، هو الذي أنقذ نظام العملة الأوروبية الموحدة من الانهيار. لكن المشكلة هي أن قدرة البنك على المناورة ستنفد في نهاية المطاف، حيث لا يستطيع المضي قدماً في طبع النقود إلى ما لا نهاية، لأن ذلك سوف يؤدي لتضخم قد تصعب السيطرة عليه. لكن الخبراء يقولون إن البنك بمستطاعه المضي قدماً في طبع النقود في المستقبل المنظور، لأن الزيادة في الطلب الناتجة عن توافر النقود في الأسواق، سوف تتم مقابلتها في الأمد المنظور من خلال زيادة الإنتاج وزيادة العرض من السلع، بدلاً من ارتفاع الأسعار الذي يقود للتضخم. ومن الحلول المقترحة، بالإضافة لذلك الخيار، ذلك المتعلق بالتوسع في استخدام "إجراءات الإنقاذ المبتكرة"، مع مطالبة ألمانيا بعدم الوقوف في طريق ذلك، أو عدم تعويقه والقبول من جانبها بنسبة تضخم في اقتصادها، تتراوح مابين 3 و4 في المئة. ولسوء الحظ فإن قادة ألمانيا ظلوا على مدار العام الأخير يرسلون رسائل متناقضة. إن السؤال الكبير الذي كان مطروحاً في عام 1992، وهو: إلى أي مدى يمكن لألمانيا الذهاب في سبيل المحافظة على وحدة أوروبا وتضامنها؟ لم تتم الإجابة عليه بوضوح حتى الآن، ما يعني أن المستقبل الأوروبي سوف يظل ملبداً بالغيوم. وهكذا فرغم أن ألمانيا كانت حاسمة عام 1992، وقررت أن تكون أولويتها لترتيب أمورها الاقتصادية على حساب التكامل الأوروبي، فإنها اليوم تبدو حائرة بشأن الطريق الذي ترغب في سلوكه. وهي بالطبع حرة في اختيار طريقها، لكنها ينبغي أن تعلم أنها إذا ما كررت موقفها عام 1992، فإن "النجاح المدوي" الذي حققه اليورو، سوف يُسجل في صفحات التاريخ على أنه "فشل ذريع". ــــــــــــــــــــــــــــ سباستيان مالابي زميل الاقتصاد الدولي في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تربيون ميديا سيرفس"