صادف حين كنا نناقش في مدينة أصيلة المغربية مصير مشروع الاندماج المغاربي في وعي النخب أن التأم في الجزائر اجتماع وزراء خارجية اتحاد المغرب العربي بعد طول انقطاع. كانت ندوة أصيلة مناسبة متميزة لاستعراض مسار هذا المشروع المتعطل الذي بدا هذه الأيام وكأنه في طور الإحياء والتنشيط بضغط من التحديات الأمنية المشتركة المطروحة على البلدان الخمسة التي أسست الاتحاد في فبراير 1989 بمدينة مراكش. حدثت أمور كثيرة بعد توقيع معاهدة الاتحاد: أطاح انقلابان عسكريان متباعدان باثنين من القادة المؤسسين (الشاذلي بن جديد في بداية 1992 ومعاوية ولد الطايع في سنة 2005) ورحل اثنان آخران في سياق الربيع العربي الذي انطلق من البوابة المغاربية (زين العابدين بن علي ومعمر القذافي)، في حين عرف المغرب إصلاحات سياسية كبرى في نهاية عهد الملك الراحل الحسن الثاني وصلت محطة اكتمالها في الدستور الجديد الذي قدمه الملك محمد السادس في السنة المنصرمة. هل ستكون هذه البيئة الديمقراطية الجديدة قوة دافعة لمشروع اتحاد المغرب العربي، أم أن محاولة الإحياء الجديدة لن تتجاوز الأبعاد الأمنية التي فرضتها الأوضاع الإقليمية المتفجرة؟ لا مندوحة من الإقرار أن مشاعر الإحباط واليأس سائدة ومهيمنة على وعي النخب السياسية والفكرية في المنطقة، إلى حد أن أحد أبرز المفكرين المغاربة والعرب هو "عبد الله العروي" ذهب في مقابلة أخيرة مع مجلة "الزمان" المغربية الصادرة بالفرنسية إلى"أن المغرب الموحد الذي نحلم به ليس وهماً بعيداً،لأنه فكرة نشأت لدى نخبة صغيرة، ولا تعبر عن حقيقة سوسيولوجية". والرجل الذي أطلق هذه العبارات اليائسة هو المؤرخ المرموق الذي كتب أحد أهم الكتب المرجعية حول تاريخ المغرب العربي من منظور دافع فيه عن وحدة المنطقة، كما أنه من جيل الحركة الوطنية المغربية، الذي اعتبر مشروع وحدة المغرب العربي المحطة المكملة لاستقلال البلدان وتحررها. والمعروف أن فكرة المغرب العربي الموحد نشأت منذ عشرينيات القرن الماضي لدى حركات المقاومة والتحرر في إطار تنسيق جهودها النضالية ضد المستعمر الفرنسي، وشكل مؤتمر طنجة سنة 1958، محطة أساسية في مسار تصور الاندماج المغاربي بعد استقلال المغرب وتونس وانطلاق الثورة الجزائرية المسلحة. وإذا كانت الصيغة الأولى التي اتخذتها الفكرة المغاربية هي صيغة مشروع التحرر الوطني، فإن الخلفية التي وجهت البناء المغاربي الذي تأسس سنة 1989 هي خلفية استراتيجية تتمحور حول بعدين أساسيين هما: متطلبات التموقع داخل النظام الدولي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة، وتحديات وانعكاسات البناء الأوروبي الذي تحول من مرحلة السوق الاقتصادية إلى الاتحاد الموسع. وهكذا نلاحظ أن المشروع التحرري المغاربي نجح في مرحلة ما قبل الاستقلال، في حين تعثر مشروع الاندماج الإقليمي الذي لا خلاف على أهميته ونجاعته. وعلى الرغم من أن فكرة المغرب العربي الموحد تبدو إحدى المسلمات البديهية في وعي النخب الفكرية والسياسية المغاربية، فإن العديد من الإشكاليات الملتبسة تكتنف في العمق تصور هذا المشروع في مستويات ثلاثة رئيسية هي: أولاً: هوية البناء المغاربي المنشود: هل يتعلق الأمر بالمغرب المتوسطي الذي هو النواة المركزية للمنطقة، أم يمتد البناء ليسع شمال أفريقيا بمفهومه المرن الذي يستوعب بالإضافة إلى البلدان الخمسة مصر (التي تقدمت في التسعينيات بطلب العضوية للاتحاد)، أم يتحدد الإطار المغاربي بمقوماته الصحراوية– الساحلية التي تشكل أفقه التاريخي والاستراتيجي؟ يجدر التذكير هنا أن هذا المفهوم سبقته وتداخلت معه صياغات أخرى. ويمكن في هذا الباب أن نميز بين مقاربات متمايزة للمجال المغاربي، تتفق في كونها تقوم على إسقاطات تاريخية أو على خلفيات تأويلية لها سياقاتها الحافة: - مفهوم "الغرب الإسلامي" الذي عممه المستشرق "ليفي بروفنسال" مستعيداً الإطار الأوسع للمجال الإسلامي الغربي في أضلاعه الثلاثة(المغرب الأدنى والأوسط والأقصى والأندلس وبلاد السودان، أي غرب أفريقيا). إلا أن هذا المفهوم الذي تستخدمه أحياناً تيارات الإسلام السياسي ليس له مضمون عيني في حركية البناء السياسي والاستراتيجي، وإنْ كان ناجعاً وملائماً في معالجة التاريخ الثقافي لهذه المنطقة التي تشكل كتلة ثقافية موحدة ومتجانسة. -مفهوم أفريقيا البيضاء الذي بلورته الاثنوغرافيا الاستعمارية للتمييز عن أفريقيا السوداء مع ربط المنطقة أحياناً مع الأصول الأوروبية والبحث عن نقاط تداخل بين "العالم البربري" وأوروبا الرومانية في مقابل "المكون العربي الوافد". وقد اشتهر هذا المفهوم لدى مؤرخ المغرب العربي الكبير "شارل أندريه جليان". -مفهوم "شمال أفريقيا" الذي هو مصطلح جغرافي وجيو سياسي يستخدم أحياناً بطريقة تتوخى الموضوعية والحياد للتعبير عن المنطقة الممتدة من موريتانيا إلى صحراء سينا المصرية. ثانياً: طبيعة نموذج البناء المؤسسي المنشود: هل يكون سقفه هو صيغة الوحدة الاندماجية الفورية التي بلورتها الأدبيات القومية العربية الكلاسيكية واعتمدتها النخب المغاربية في لحظة التحرر الوطني بتأثير مشرقي واضح، أم يكون النموذج الإندماجي الأوروبي القائم على فكرة السيادة المتقاسمة هو المثال الأقرب للاحتذاء، أم يكون الحل الواقعي الأقرب هو الاكتفاء بالسقف الخليجي الذي هو التجربة العربية الوحيدة الناجحة نسبياً على الرغم من نقاط ضعفها العديدة؟ ثالثاً:علاقة البناء الإقليمي بنمط النظام السياسي الداخلي: فهل فشل المشروع الاندماجي المغاربي نتيجة للطبيعة الاستبدادية التسلطية للأنظمة السياسية التي أسسته، وبالتالي يكون مسار التوحد مرهوناً بتوطيد الحريات الديمقراطية في الداخل، أم أن العلاقة منفصمة وغير قائمة بين مطلبين يختلفان من حيث الخلفية والمنطق؟ صحيح أن شعار الوحدة المغاربية لم يرفع في ميادين الثورة، ولم يكن محركاً للجموع المنتفضة التي تمحورت مطالبها حول الحرية والكرامة، بيد أن تحرير إرادة المواطن يزيد دون شك من فرص تحقق مشروع انتقل من وعي النخب إلى متخيل العامة والجمهور.