في الانتخابات الليبية الأخيرة، والتي لم تعرف البلاد مثيلاً لها منذ عقود... تفاجأ العالم مرتين، مرةً باكتمال الاقتراع دون حدوث أعمال عنف دامية، ومرة أخرى بأن ليبيا كسرت منحنى المنافسة الانتخابية في دول "الربيع العربي"، فوضعت الإسلاميين بعد الليبراليين، وبفارق كبير لصالح "التحالف الوطني" الذي احتل المقدمة، ليصبح المفاجأة الكبرى للانتخابات الليبية، لاسيما أنه يضم مكونات متباينة، يصعب ضمها في إطار واحد دون وجود زعامة مقنعة وتحظى بالثقة. إنه التحالف الذي يقوده الدكتور محمود جبريل، السياسي الليبي وخبير المستقبليات، ورئيس الحكومة المؤقتة خلال الثورة. وقد ولد محمود جبريل عام 1952 بمدينة بنغازي، وفيها نشأ وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي قبل أن يسافر للدراسة في مصر حيث حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1975، لكن العاصمة المصرية شدته فعاد إليها في منتصف الثمانينيات ليتزوج من زميلته في الدراسة سلوى شعراوي جمعة، ابنة وزير الداخلية المصري الأسبق، وهي زوجته الآن وأم بناته الثلاث. وقبل ذلك كان جبريل قد حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأميركية عام 1980، ثم على الدكتوراه في التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، عام 1984، من الجامعة ذاتها حيث مارس التدريس عدة سنوات، وألّف كتباً في التخطيط الإستراتيجي وصناعة القرار. وفي الثمانينيات، أشرف جبريل على تصميم دليل التدريب العربي الموحد، وأدار أول وثاني مؤتمر للتدريب في العالم العربي عامي1987 و1988، كما أشرف على برامج تدريبية لقيادات الإدارة العليا في بعض الدول العربية. وعين في عام 2007 مديراً عاماً لـ"المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي"، وهو هيئة ليبية حكومية تهدف لجذب الاستثمارات الأجنبية، وكان آخر موقع رسمي شغله خلال عهد القذافي، بعد أن عارضه لسنوات طويلة، إذ لم يعد من المنفى إلا في عام 2007، بمساع من سيف الإسلام القذافي الذي كان يُنظر إليه يومها على أنه الواجهة الإصلاحية للنظام. لكن جبريل انشق عن النظام في الأسابيع الأولى على ثورة 17 فبراير 2011، حيث عُين عضواً في "المجلس الوطني الانتقالي"، وأصبح مبعوثاً يجوب العالم ممثلاً للمعارضة، فاستطاع حشد الدعم لها من خلال خطب صيغت بعناية، وساهم في الدفع نحو موقف "الناتو" الذي شن حملة قصف جوي بتفويض من الأمم المتحدة. كما استطاع، بمساعدة أصدقاء غربيين ومنشقين عن النظام السابق، انتزاع الاعتراف الدولي بالمجلس الانتقالي، لاسيما من جانب فرنسا التي كانت أول دولة تعترف بـ"حكومة" المعارضة الليبية. وبعد سقوط طرابلس على أيدي الثوار، استقال جبريل من منصبه كرئيس للوزراء، في أكتوبر 2011، بعد أيام من مقتل القذافي على أيدي مقاتلي المعارضة، في خطوة قال إنه خطط لاتخاذها مسبقاً. والحقيقة أنه بينما كان نظام القذافي يتهاوى، كانت الضغوط تزداد لإبعاد جبريل بحجج كثيرة، منها القول بإهماله ملف التحقيق في قضية مقتل عبد الفتاح يونس (رئيس أركان الجيش الوطني الليبي)، ومنها ما يتعلق بانتقادات وجهها له البعض بسبب كثرة أسفاره للخارج واصفين حكومته حينذاك بـ«الحكومة الطائرة». ومهما يكن الأمر، فإن استقالة جبريل من موقعه، أشعرت الكثير من الليبيين بوجود فراغ يتطلب ظهور رجل مثله، وهو الذي وصفه مسؤولون غربيون بأنه "رجل ذكي ومخطط استراتيجي، ويحظى بإعجاب الغرب". ولعل جبريل لاحظ ذلك المزاج العام في الداخل والخارج، فقرر تأسيس حزب سياسي التف حوله كثير من الناشطين الجدد. وقبل ذلك قام بجولة في البلاد بهدف "الإصغاء للشعب الليبي"، داعياً إلى المصالحة الوطنية وتحقيق الوفاق بين الجماعات المختلفة. لذلك فقد رأى فيه كثير من الليبيين صورة رجل هادئ ومختلف عن القذافي، لاسيما وقد قدّم نفسه كصاحب برنامج تنموي طموح، وذا خبرة دولية في العلاقات مع المستثمرين، كما شدد مراراً على أن العصر الحالي هو عصر المعرفة، وأن هذه الأخيرة أساس بناء مجتمعات اليوم وليس الأيديولوجيا. لذلك ينظر كثيرون في ليبيا إلى الدكتور جبريل على أنه الشخص القادر على تأمين أولويات التحول، أي تحقيق المصالحة، وفرض الأمن، وإنجاز التنمية الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة... بما يمهد الطريق أمام ليبيا كي تصبح ماليزيا الأبيض المتوسط مستقبلاً. ورغم غلبة التوجهات التنموية والخدمية في برنامج "تحالف القوى الوطنية"، بقيادة جبريل، والذي يضم مجموعة متنوعة من الشخصيات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، فإن التحالف يرفض وصفه بالعلماني أو الليبرالي، قائلاً عن نفسه بأنه كيان إسلامي سياسي معتدل. وذلك مما يفسر فوزه بأصوات من شتى أنحاء البلاد، لاسيما في مدينة مثل درنة التي تعتبر أحد معاقل الإسلاميين في الشرق الليبي. وإلى جانب صورته ومكانته الشخصية، واللتين جعلتا كثيراً من الليبيين يصوتون لمرشحي تحالفه دون أن يعلموا عنهم شيئاً، فإن أحد عناصر القوة الانتخابية لجبريل، انتماؤه القبلي والجغرافي. فهو من قبيلة "ورفلة" التي كانت أكبر قبيلة مؤيدة للقذافي، لاسيما في معقلها الرئيسي بمدينة بني وليد في الوسط الليبي، كما أنه ينحدر من مدينة بنغازي، مهد الثورة ومنطلق شرارتها الأولى. ومع ذلك فإن جبريل -الرجل الأنيق والمنفتح- يعد شخصية توافقية متزنة، يقف خارج الاستقطابات والتجاذبات، ويركز على القضايا الجوهرية ذات الصلة ببناء الاقتصاد والدولة والمصالحة الوطنية. لكن سيتعين عليه، إذا ما ترأس الحكومة القادمة، مواجهة العديد من المشكلات، وفي مقدمتها مطلب الفيدرالية في إقليم برقة، وإقامة تحالف وطني واسع يضع القواعد والأسس لبناء الدولة الليبية الجديدة! محمد ولد المنى