جاء أحمد جبريل، أمين عام "الجبهة الشعبية- القيادة العامة"، إلى لبنان قبل شهرين وهدَّد اللبنانيين بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا حاولوا "الاعتداء" على المخيمات الفلسطينية وبخاصةٍ نهر البارد، وقال إنه قابل أمين عام "حزب الله" الذي قال له إنّ المهمة الرئيسية للحزب وسلاحه في هذه الأيام تتمثل في الحفاظ على نظام الممانعة والمقاومة في سوريا! وأَظهر وقتَها بعض قادة 14 آذار الاستغراب، لأنّ الحزب يقول كلَّ وقت إنه يحتفظ بسلاحه لتحرير الأرض، وردْع العدو الإسرائيلي! ومنذ جاء جبريل إلى لبنان وإلى اليوم جرت اشتباكاتٌ بين الجيش والفلسطينيين في مخيم نهر البارد، وبين جبل محسن وباب التبانة، كما جرت محاولتا اغتيال لسمير جعجع وبطرس حرب! وفي كل يومٍ تقريباً تجري اشتباكاتٌ على الحدود بين الجيش السوري ومسلحين في عكّار يقال تارةً إنهم سوريون وتارة إنهم لبنانيون يريدون التسلُّل إلى سوريا. ولدى لبنان من المسجَّلين رسمياً حوالي الثلاثين ألف نازح، بيد أن عدد السوريين المعدمين وشبه المعدمين الذين أتوا إلى لبنان في عام 2012 يزيد على المائة ألف. ومنذ بدء الاشتباكات على الحدود قبل عامٍ وحتى الآن قُتل 15 لبنانياً بينهم نساء وأطفال، وما حرَّكت الحكومة اللبنانية ساكناً، ولا استدعت السفير السوري لتسأله عما يجري. بل إن السفير السوري يأتي إلى المسؤولين اللبنانيين، مستنكراً! ذكرتُ هذه الأمور كُلَّها لأن الحكومة اللبنانية واجهت أزمةً عصيبةً الأسبوع الماضي، بسبب خلاف أعضائها على تثبيت زُهاء الألفين من المياومين بشركة الكهرباء، ووزير الكهرباء كما هو معروف، جبران باسيل، صهر الجنرال عون حليف "حزب الله" في السياسة والحكومة، وله نصف الوزراء. وقد أصرَّ بري على تثبيت المياومين لأنّ 60 بالمئة منهم شيعة، بينما السنة حوالي 25 بالمئة، والمسيحيون 15 بالمئة فقط. والطريف أن مسيحيي عون ومسيحيي 14 آذار تحالفوا بمجلس النواب وانسحبوا من الجلسة لمنْع تثبيت المياومين المسلمين! فتصاعدت أزمةٌ كبرى، وقيل إن الحكومة تفككت إلى غير رجعة، وقد تشاتَمَ عون وبري عَلَناً، وحمل الوزير باسيل على "حزب الله" لعدم تدخُّله لصالح عَون! ثم وكأنما بسحر ساحرٍ خفتت كلُ الأصوات، واجتمعت الحكومة لمناقشة أربعة أُمور: بحث الاحتجاجات في عكار على قتل الجيش اللبناني لشيخين قبل شهر، وقيام المحكمة العسكرية بإطلاق سراح الآمرين بإطلاق النار، وبحث محاولة اغتيال النائب بطرس حرب (من 14 آذار)، ورفض وزير الاتصالات تسليم الداتا للقوى الأمنية لملاحقة الجُناة، وبحث الوضع المتوتر على الحدود مع سوريا وسقوط القتلى من اللبنانيين والسوريين النازحين يومياً، وإقرار موازنة العام 2012-2013. وجرى إقرار الموازنة بما في ذلك الـ35 مليون دولار السنوية لتسديد نفقات المحكمة الدولية. لكن الأمور الثلاثة الأُخرى تعرقلت رغم ما يقال من أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ما كانا مسرورَين! إذ رغم محاولات الاغتيال، والحوادث الأمنية الأُخرى، لم تتعاون وزارة الاتصالات مع الداخلية والدفاع في تسليمهما الداتا لمتابعة المكالمات الهاتفية. وحُجَّةُ وزير الاتصالات وأكثرية وزراء عون و"حزب الله" أن في ذلك مساساً بالحريات والخصوصيات، رغم أن المتابعة ستكون بإشراف القضاء. وقد دفع ذلك السنيورة وحرب إلى اتهام أعضاء الحكومة بأنهم إمّا أن يكونوا هم الذين يمارسون الاغتيال، أو أنهم يتسترون على القائمين بذلك لأنهم يعرفونهم! وفي مسألة مقتل الشيخين، أوصت الحكومة بالتوسُّع في التحقيق بإشراف مدعي عام التمييز، لكنها رفضت تحويل القضية إلى المجلس العدلي. أما في مشكلات الحدود، فأوصت الحكومة بنشر الجيش، مع أنّه موجود على الحدود بالفعل ولا يفعل شيئاً غير مراقبة النشاطات"غير المشروعة" حيال النظام السوري، وما حال ولا مرَّة دون دخول القوات السورية إلى لبنان! لماذا نذكر هذا كلَّه؟ لأن الحكومة الحالية تشكلت قبل عام ونصف العام، أي قبل الثورة السورية بشهرين تقريباً، وقد شكَّلها نصر الله والأسد أثر إسقاط حكومة الحريري بانحياز جنبلاط وبعض نوابه إلى حكومةٍ برئاسة ميقاتي. ويقال إنّ فيلتمان شارك في التشكيل، بسبب العلاقة التي تربطه بميقاتي وجنبلاط، ولأن الأميركيين كانوا لا يزالون يأملون بتحسين العلاقات مع سوريا الأسد! وهكذا فقد فُرض عزل سياسي على الاتجاه السياسي الرئيسي لدى المسلمين السنة. وتعرض ميقاتي لبعض الإحراج بعد نشوب الثورة في سوريا. فقد بادر وزير الخارجية اللبنانية، وهو شيعيٌّ من جماعة "حزب الله" وإيران- إلى تأييد نظام الأسد في الجامعة العربية وفي الأُمم المتحدة، وذهب مبعوثاً من قِبَله إلى روسيا وأماكن أُخرى. وكان ميقاتي يعبر أحياناً عن أسفه لسفك الدم، ثم طوَّر مع وزير الخارجية ورئيس الجمهورية سياسة الوقوف على الحياد بشأن الأحداث في سوريا. بيد أنّ النظام السوري احتاج مع اشتداد الضيق عليه لما هو أكثر من ذلك: لجهة الأمن على الحدود، ولجهة تعاوُن الأجهزة الأمنية اللبنانية، ولجهة تهريب الأموال والتحويلات عبر النظام البنكي اللبناني. لكن ميقاتي ظل يتمتعُ بدعم واستحسان عدة جهات أوروبية وأميركية وعربية. وقد قيل في البداية إن السبب هو أنه يشكل قناةً باقيةً مع الحزب ومع النظام السوري. وعندما سقط هذا الاعتبار واستمر الرضا قالت السفيرة الأميركية في بيروت: إن السبب هو إبعاد لبنان عن الغرق في الأزمة السورية. والحقيقة أن ميقاتي و"حزب الله" يفعلان عكس ذلك، فهما يُعينان النظام السوري حتى في المواطن التي تؤدي إلى الإخلال بالأمن اللبناني وبالسلامة المالية للبلاد! وإذا كان "حزب الله" يعتبر ذلك واجباً دينياً واستراتيجياً، فإن الدوافع ذاتَها لا تتوافرُ لدى ميقاتي. إذ المفهوم أنه جاء للرئاسة بسبب شراكته مع الأسد وحُبه للسلطة، الشراكة التي صارت مكلفةً جداً حتى على أصدقائه من مديري المصارف الذين مَثَلُهُمُ الآن مَثَل مَنْ يلحس المبرد. أما حُبُّ السلطة، فيكفيه مرارةً ما يتجرعُهُ يومياً من عون الذي يريد الحصول على كل شيء قبل انهيار النظام السوري، وإعراض "حزب الله" عنه أو ضعفه. بيد أن هذا شيء، ومصالح إيران و"حزب الله" شيء آخر. فإيران تخوض الآن معركة وجودٍ في وجه الحصار، وتخشى أن يضيع كل ما كسبته خلال أكثر من عشر سنوات إن تزعزعت أو أظهرت ضعفاً. والأميركيون الذين عملوا سنوات على تضييق الخناق عليها لن يُرخُوا قبضتهم عن عنقها قبل الحصول على ما يريدون. ولا شك أنهم يعتبرون التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هُرمُز فرصةً واستدراجاً. ولن تقع إيران في هذا المغطس، أي خوض حرب مباشرة مع الولايات المتحدة. لذلك لا تزال لـ"حزب الله" وظيفة مهمة هي التعرُّض لإسرائيل أو التهديد بذلك. ولا تزال له وظيفة معاونة النظام السوري. لذلك لا يستطيع ميقاتي مغادرة رئاسة الحكومة حتى لو أراد، لأنه رهين الحزب، ورهين النظام السوري المتداعي. وبذلك فالضغوط على المسلمين السنة وعلى قوى 14 آذار ستظل شديدةً وقاسية، ومنها الاغتيالات، ومنها استمرار العزل السياسي، ونشر التشققات والاختراقات في صفوفهم!