يصعب وصف الثورة المصرية منذ بدايتها 1952، ثورة الضباط الأحرار حتى الثورة المصرية الثانية 2011، ثورة الشعب، بمعزل عن علاقتها بالإخوان المسلمين. وهناك مئات الدراسات والرسائل الجامعية والمقالات في الموضوع. والمهم الآن هو رؤية دورة التاريخ واكتماله من عداء الثورة للجماعة في عهد الرئيس الثاني، عبد الناصر إلى عداء الجماعة للثورة المضادة في عهدي الرئيس الثالث والرئيس الرابع. والحقيقة أن الإسلام والثورة بدءا متعاونين. فقد كان نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة تقريباً من الإخوان. وكان "الإخوان" على علم بموعد قيام الثورة. وعهد إليهم ليلتها بحراسة المنشآت العامة. وكان الفريقان قد تعاونا من قبل أثناء حرب فلسطين 1948 ثم أثناء مقاومة الفدائيين في القناة 1951 قبل اندلاع الثورة. وقد اختارت الثورة سيد قطب ليكون أميناً لهيئة التحرير"التنظيم السياسي للثورة". وكان معروفاً لدى الضباط الأحرار بكتاباته عن "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام" قبل أن يتحول تحت آثار التعذيب إلى "معالم في الطريق". وطلبت منه الثورة إلقاء أحاديث إذاعية عن الإسلام والثورة. بدأت الثورة بالتوافق بين الإسلام والثورة في عهد الرئيس الأول الذي لم يدم طويلاً. ثم ضحت به الثورة كما ضحت بالإخوان في 1954. وعندما بدأ الصراع بين ناصر ونجيب يطفو فوق السطح وعبر نجيب عن اتجاهه الإسلامي الثوري، انحاز الإخوان إلى نجيب. ولما خسر نجيب الصراع وبعد حادث إطلاق النار في المنشية على ناصر واتهام "الإخوان" بمحاولة اغتياله انفكت الرابطة بين الإسلام والثورة. ودخل الإخوان السجون ولاقوا بداخلها أشد أنواع التعذيب. وظلوا كذلك حتى وفاة عبد الناصر في 1970، وظهر الإسلام الدعائي الذي يبرر اختيارات النظام. وظهرت أدبيات الإسلام والتأميم بعد تأميم القناة في 1956، والإسلام والوحدة بعد الوحدة مع سوريا في 1958-1961، والإسلام والاشتراكية بعد قوانين يوليو الاشتراكية 1962-1963. ثم ظهر الإسلام الدعائي للمقاومة بعد هزيمة 1967 "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ". ثم انقلب على نفسه وبنفس الرجال، فقهاء السلطان، بعد كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا). واتهم كل من عارض المعاهدة مع إسرائيل بأنهم خوارج العصر. وأخرجهم الرئيس الثالث من السجون لاستعمالهم ضد الناصريين وجموع اليسار المصري عندما انقلب على الثورة بعد نصر أكتوبر 1973. وقرر الانفتاح الاقتصادي 1974 وأصدر قانون الاستثمار 1975. لعب بهم الرئيس الثالث واستعملهم لإضفاء شرعية دينية على نظامه بعد أن نقد الشرعية الثورية، وسمى المجتمع المصري مجتمع العلم والإيمان، وهو خامس الخلفاء الراشدين، كبير العائلة. وأفسح المجال لبرامج العلم والإيمان في القنوات التلفزيونية ليتستر على استبداده وفساده وتبعيته لأميركا وإسرائيل واستمرار قطيعته مع إيران. ولما قامت هبة يناير 1977 قرر إيجاد حليف في الخارج بعد أن سيطرت صور عبد الناصر على مصر كلها من الإسكندرية إلى أسوان. واستعد هو للمغادرة إلى صديقه شاه إيران لولا تدخل الجيش ضد الثوار وإنقاذه. وقرر زيارة إسرائيل في نوفمبر من نفس العام وعقد مفاوضات السلام في كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة السلام في 1979. فانقلب "الإخوان" عليه بعد أن وضع كل معارضيه بالآلاف من كل الأطياف في السجن فيما يعرف بمذبحة سبتمبر من نفس العام. ولما سار في شوط الثورة المضادة أبعد من اللازم قررت إحدى الجماعات الإسلامية، جماعة الجهاد، تصفيته للتخلص منه في أكتوبر 1981. ولما استمر الرئيس الرابع في نفس الثورة المضادة لسلفه مع مزيد من الاستبداد واستمرار "الإخوان" في السجون والمعتقلات أفرج عن التائبين منهم الذين قاموا بمراجعات النفس بمساعدة الأمن. ورفضوا العنف. وخرجوا من السجون مواطنين يمارسون الدعوة سلماً. واستمر الرئيس الرابع في الثورة المضادة مع مزيد من الفساد وتزوير الانتخابات وإعداد المسرح السياسي والدستوري للتوريث. وأوحى للغرب بأنه عليه أن يختار بينه وبين الإسلاميين أنصار "حزب الله" وإيران المناهضين لإسرائيل. ففقدت مصر الإسلام والثورة على حد سواء. ثم أتت ثورة يناير 2011 وانضم "الإخوان" إلى الثوار وتحولوا من المحظورة إلى حزب شرعي. وعاد الوئام بين الإسلام والثورة لولا الصراع على السلطة مع فرقاء النضال وحرص "الإخوان" على الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، المقاعد في مجلسي الشعب والشورى، الأعضاء في اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، والانتخابات الرئاسية. ونجح مرشح الجماعة بفرق ضئيل عن مرشح النظام السابق الذي صوت إليه الكثيرون كراهية في "الإخوان"، كما صوت الكثير للإخوان رفضاً للنظام السابق. بينما فضل البعض المقاطعة أو إبطال الصوت رافضين الخيارين، الاستبداد الديني والاستبداد العسكري. وها هو الرئيس الجديد يجد في الشعب خير سند له. يقسم أمامه اليمين الدستوري في الميدان. ناصر في قلوب الجماهير. حاضر في ذاكرتهم. يشاهدون آثاره في الإسكان الشعبي، ولجان تقدير الإيجار، والصناعات، والإصلاح الزراعي الذي استفاد منه الرئيس الجديد بفدانين منه، والسد العالي، والجمعيات التعاونية والتأمين الصحي ومجانية التعليم وكرامة مصر وريادتها وزعامتها في محيطها العربي وأثرها على الساحة الدولية. والإسلام موروث الشعب الثقافي وأساسه النظري. فلا الثورة ضد الإسلام، ولا الإسلام ضد الثورة. جمع الرئيس الجديد بين الإسلام والناصرية. وهما المكونان الرئيسيان للوجدان الشعبي. الناصرية بمفردها تكون في فراغ. يسهل العصف بها. والإسلام بمفرده شعائري شكلي عقائدي سلطوي تبريري للنظام أو تنظيم سري ضده. هذا هو الطريق الثالث الذي يمثله الرئيس الجديد، طريق الإسلام الثوري أو الثورة الإسلامية وما سُمي من قبل عند بعض المفكرين "اليسار الإسلامي". وهو القادر على تجاوز هذه الاستقطابات المصطنعة بين الدولة الدينية والدولة المدنية، بين السلفي والعلماني، بين الإسلامي والليبرالي وكأن الإسلام ليس ليبرالياً وكأن الليبرالية ليست إسلامية. وهذا سيؤثر في الوطن العربي كله. ويعود به الى عصر التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات عندما كان الإسلام هو المكون الرئيسي للتحرر الوطني في المغرب والجزائر واليمن ومصر وليبيا وتونس، وتقل المحافظة الدينية في الساحة والسيطرة على الثقافة الشعبية. وتزيد مساحة الليبرالية بكافة أصنافها قومية أو اشتراكية. وتنزل من نخبويتها فتلتحم بثقافة الجماهير. فهل يستطيع الرئيس الجديد أن يفجر هاتين الطاقتين ويوحدهما ويعود بالثورة المصرية إلى عهدها الأول، عهد الضباط الأحرار الذين كانوا يمثلون كل القوى الوطنية في الأربعينيات بما في ذلك الإخوان والماركسيون؟ هل يستطيع أن يجعل مصر تتنفس برئتين، وترى العالم بعينين، وتسير على قدمين، الإسلام والثورة؟