مع التطوّر الاقتصادي الذي تشهده الأسواق الخليجية، ظهر واضحاً في الآونة الأخيرة بروز مشكلتين رئيسيتين، إحداهما التضخّم المبالغ فيه، والذي جاء نتيجة زيادة الإنفاق الحكومي على المشاريع، خاصةً العمرانية منها. أما المشكلة الثانية التي باتت تؤرق المجتمع بأكمله، فهي مشكلة الاحتكار في بعض قطاعات الأسواق الخليجية. ففي الأسبوع الماضي، عمدت إحدى شركات مبيعات السيارات الأميركية المشهورة إلى إلغاء توكيل ثلاثة من وكلائها المحليين في المملكة العربية السعودية، وتركيز وكالتها لدى وكيلٍ حصري واحد. وهناك تخوّف من أنّ هذا التركيز الاحتكاري قد يزيد من أسعار سيارات هذه الشركات، ويزيد من تكاليف الصيانة. واضطرّ الوكلاء الثلاثة الآخرين إلى إغلاق شركاتهم بعدما استثمروا أموالاً هائلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة في تجهيز هذه المقرّات وخدمة العملاء. وكانوا إلى حدٍّ ما يمثّلون شكلاً من أشكال المنافسة، التي تسمح بتخفيضات يسيرة للمستهلكين، سواءً في سوق شراء السيارات، أو صيانتها. وقد استغرب الكثيرون من تصرّف مثل هذه الشركة، وأن تعمد إلى مثل هذا الإجراء، في الوقت الذي كان يجب على هذه الشركة وأمثالها الاستفادة من عضوية المملكة، ومعظم دول الخليج العربية في منظمة التجارة العالمية، والتي تسمح للشركات الأجنبية بالاستثمار في مجال تسويق منتجاتها بشكلٍ مباشر في هذه الأسواق، وتخفيف تكاليف السلع والخدمات على المستهلكين. والحقيقة أنّ مشكلة الاحتكار ليست مشكلة خارجية بحتة، فهناك اندفاع داخلي لزيادة نسب الاحتكار والاستفادة لمصلحة عدد من الشركات المحلية على حساب المواطن ذي الدخل المحدود، وفي خدمات ضرورية لا يستطيع المواطن تلبيتها. فعلى سبيل المثال، ظهرت في السعودية مشكلة عسيرة متمثّلة في تقلّص الدول المصدِّرة للعمالة المنزلية إلى المملكة، خاصةً مع مشاكل في دول المنشأ مثل إندونيسيا والفلبين، التي كانتا إلى وقتٍ قريب تمثّلان المصدرّان الرئيسيان للعمالة المنزلية المصدِّرة إلى المملكة. واضطرّ المواطنون إلى اللجوء إلى دول بديلة في أفريقيا لسدّ هذا النقص. ومع ذلك فقد تضاعفت أسعار الاستقدام من ستة إلى سبعة الآف ريال للخادمة في الماضي، إلى ستة عشر ألف ريال في الوقت الحاضر. وتسابقت الشركات ومكاتب الاستقدام المحلية، وتلك الكائنة في بلد المنشأ، في استنزاف جيوب أرباب الأسر. وأصبح تكلفة استقدام خادمة في المملكة يساوي أكثر من ضعفي استقدام خادمة مشابهة في دولة الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال. وزاد الطين بلّة، توجُّه بعض رجال الأعمال إلى تكوين شركات ضخمة لاستيراد العمالة المنزلية، لتصبح بديلاً للمكاتب والشركات الصغيرة المنتشرة في مدن المملكة، والتي كانت تقوم بالتنافس فيما بينها لتقديم أسعار خدمات أقل للزبائن. ولا شكّ أنّ المثالين السابقين يشكلان جزءاً يسيراً من محاولات التمركز والاحتكار للأسواق الذي تمارسه الشركات الكبرى، والوكالات الأحادية بحق المستهلكين والمواطنين المحليين. ولا تنحصر مثل هذه الاحتكارات على سوق الخدم أو السيارات، بل تشمل كذلك سلعاً وخدمات أخرى، مثل مبيعات وصيانة الأجهزة الطبية على سبيل المثال، وغيرها من القطاعات الاقتصادية. ومشكلة احتكار الأسواق وتمركزها ليست مشكلة محصورة في بلد خليجي واحد، بل إنها مشكلة موجودة في معظم الدول الخليجية، ويحتاج حلّها إلى قوانين وأنظمة وطنية، وكذلك الى قوانين خليجية موحّدة. لقد بات إنشاء هيئة خليجية متخصصة في مكافحة الاحتكار في أسواق الخليج أمراً في غاية الأهمية. فمثل هذه الاحتكارات تدفع بالأسعار إلى التضخّم في قطاعٍ معيّن، وقد ينتقل مثل هذا التضخّم من قطاع اقتصادي واحد إلى قطاعات متعددة، تضرّ بالاقتصادات الوطنية، وتطرد الاستثمارات المنافسة من هذه الأسواق. كما أنّ وجود مثل هذه التشريعات لمكافحة الاحتكار والحدّ منه، من شأنه أن يفتح المجال أمام صغار المستثمرين من الشباب، والشركات الجديدة بالدخول إلى سوق خليجية واسعة وواعدة، وهو ما قد يخفف من البطالة في صفوف الشباب، ويفتح مجالات أوسع للأموال المكدَّسة في البنوك للاستثمار في الأسواق وخلق فرص عمل جديدة. كما أنّ محاربة التمركز والاحتكار من شأنه أن يشجِّع المستثمرين الأجانب على الدخول إلى الأسواق الخليجية للاستثمار طويل المدى في مصانع محليّة. ولقد وضحت مشكلة الاحتكار في العديد من دول العالم المتقدم، ما دعا تلك البلدان إلى سنّ التشريعات التي تحدّ من ذلك. وليست مثل هذه التشريعات جديدة على المجتمعات الخليجية، فقوانين الإفصاح الخاصة بأسواق الأسهم في دول الخليج العربية تقوم بدور حكومي مشابه لحماية صغار المستثمرين من جشع (هوامير) السوق الذين يتلاعبون به. وتسعى المؤسسات المالية المعنيّة في هذه الدول إلى مراقبة الأسواق المالية وضبطها وإنزال عقوبات مالية بحقّ المتلاعبين فيها. الاحتكار وتضخّم الأسعار آفتان يجب محاربتهما بكل الطرق القانونية الممكنة، على المستوى الوطني وعلى مستوى مجلس التعاون.