تحل هذا الشهر الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، بعد حرب تحرير ملحمية كللت بانعتاق هذا البلد العربي من نير الاحتلال في 5 يوليو 1962، بعد نضال طويل وحرب تحررية ضروس دامت أكثر من سبع سنوات، قدمت خلالها الجزائر أكثر من مليون ونصف المليون شهيد. هذه الحرب (1954-1962) هي موضوع آخر كتاب للباحث الفرنسي بينجامان ستورا، وعنوانه "تفسير حرب الجزائر"، الحرب التي يحاول "ستورا" شرحها لقرائه، وبخاصة الشباب منهم، وذلك وفق صيغة سؤال- جواب، ودون تجنّب للأسئلة "الشائكة" أو المواضيع المثيرة للجدل، حيث يقول في مقدمة الكتاب إنها أسئلة "طرحت عليه وبشكل متكرر خلال حياته كمؤرخ، من قبل شباب وأطفال، فرنسيين وجزائريين، بمناسبة محاضرة، أو لقاء، أو زيارة للجزائر، أو مأدبة للأصدقاء أو للعائلة". وهكذا، يلقي ستورا الضوء على كل جانب من جوانب هذه الصفحة من التاريخ المشترك بين فرنسا والجزائر. لم يتجاهل الكتاب أي موضوع: فقر الجزائريين الذي لم تتم الإشارة إليه ضمن "فوائد" الاستعمار الفرنسي المزعومة، وكذلك فقر أغلبية "المعمرين" الفرنسيين؛ وقمع المقاومين والمجاهدين الجزائريين، وعنف "منظمة الجيش السري" (OAS)، المنظمة فرنسية التي كانت تضم المواليين لأطروحة "الجزائر الفرنسية" وكانت تعتمد أساليب إرهابية ضد الجزائريين المطالبين بالاستقلال... كما يتناول العنف داخل حركة الاستقلال الجزائري نفسها، وأسطورة "جزائر موحدة في حرب مجيدة من أجل الاستقلال"، ومصير "الحركيين"، وهم الموالون للاستعمار الفرنسي من الجزائريين، والذين يُنظر إليهم في الجزائر كـ"خونة" و"متعاونين" مع الاستعمار، حيث تعرضوا لأعمال انتقامية بعد الاستقلال. في هذا الكتاب، يحكي الكاتب أهم أحداث حرب الجزائر، منذ مذابح سطيف إلى هجمات "المنظمة المسلحة السرية"، مروراً بـ"لعبة" جبهة التحرير الوطني، وسياسة شارل دوجول، و"الحركيين"، ونهاية الجمهورية الرابعة، إلخ. ويحاول إعادة سرد تاريخ هذه الحرب التي ظلت لوقت طويل "بدون اسم"، وفصولها الرئيسية، ولاعبيها الأساسيين (فرنسيين وجزائريين)، مشيراً إلى نقاشات البحث التاريخي الأحدث، إضافة إلى التأثيرات السياسية المتواصلة... والهدف إعادة سرد كل تعقيدات الحرب بطريقة واضحة وبسيطة، ودون السقوط في فخ "التبسيط" و"الاختزال". ومثلا، يقول ستورا في اندلاع حرب التحرير الجزائرية في نوفمبر 1954: "إن السياق العام في ذلك الوقت كان سياقاً ميّزه تطلع الشعوب المحتلة إلى الاستقلال. تطلعٌ بدأ يقوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أدركت القوى الاستعمارية الكبرى (خاصة بريطانيا وفرنسا) ضرورة التعامل معه. وهكذا، حصلت بعض البلدان على استقلالها بطريقة سلمية نسبياً، مثلما حدث في سوريا ولبنان عام 1946. غير أنه في بلدان أخرى اندلعت الحرب، مثلما حدث في "الصين الهندية" (فيتنام حالياً) التي رفضت فرنسا منحها الاستقلال. فدامت حرب فيتنام من 1946 إلى 1954 وانتهت بهزيمة عسكرية لفرنسا في دين بين فو. وفي الجزائر، لم يكن باستطاعة الراغبين في الاستقلال تجاهل هذه الهزيمة التي أثبتت لهم أن لديهم فرصة للتغلب على القوة الاستعمارية". لكن ستورا يحرص في الوقت نفسه على الإشارة إلى الاختلاف بين وجهات نظر المؤرخين حول هذا الموضوع بكل أمانة، مشيراً إلى أن بعضهم يرى أن "حرب الجزائر الأولى" بدأت منذ 1830، تاريخ احتلال فرنسا للجزائر؛ بينما يرى آخرون أن "مذابح سطيف"، في مايو ويونيو 1945، تمثل البداية الفعلية لحرب الجزائر. ولعل ما يميز هذا الكتاب عن الكتب الكثيرة حول هذا الموضوع هو شخصية مؤلفه، بنجامان ستورا، المؤرخ والأستاذ الجامعي والشاهد على العصر، والذي كرس حياته للبحث الأكاديمي وألّف أكثر من عشرين مصنفاً في حرب الجزائر. وقد ولد ستورا في مدينة قسنطينة الجزائرية عام 1950، ونشأ وترعرع كطفل خلال هذه الحرب، قبل أن يعود والداه في نهايتها إلى فرنسا. وهو مازال يحتفظ في ذاكرته بمذاق الأكلات الجزائرية، وطبق يهود قسنطينة، وكلمات عربية بصوت أمه، ونزهات إلى الشاطئ... ولكن أيضاً بحروق الحرب، وصمت الآباء، والمنفى بدون عودة والحزن الطويل، أو "الاجتثاث" الذي يقول ستروا إنه يلخص الجوانب المتعددة والمتناقضة لهذه الحرب. لكن ستورا يبدو واعياً بضرورة فصل التجربة الشخصية عن البحث التاريخي إذ يقول: "إن عملي كمؤرخ، يقتضي أخذ مسافة من ذكرياتي الشخصية، حالتي الفردية، من أجل سرد تاريخ يهم الشعبين الفرنسي والجزائري". بعد خمسين عاماً على اتفاقيات إيفيان التي توجت المفاوضات بين فرنسا و"الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية"، وكان من نتائجها إقرار وقف إطلاق النار، وإقرار مرحلة انتقالية... أراد ستورا الإجابة عن الأسئلة الأكثر تردداً على ألسنة الناس. أسئلة قد تبدو ساذجة أحياناً، لكنها في الواقع الأسئلة التي يطرحها كل الأشخاص الذين لا يعرفون تفاصيل وظروف وملابسات هذه الحرب التي كثيراً ما وُصفت في فرنسا باعتبارها "أحداثاً". وعموماً، يمكن القول إن ستورا نجح في شرح فترة تاريخية جد معقدة، وإن كان يقول أحياناً: "إنه سؤال ليس من السهل الإجابة عنه"، رغم أنه واحد من أكبر المتخصصين في الموضوع. محمد وقيف الكتاب: تفسير حرب الجزائر المؤلف: بنجامان ستورا الناشر: سُوي تاريخ النشر: 2012