بات جعل مدينة القدس "العاصمة الكبرى لإسرائيل" واحداً من أهم الأهداف والركائز التي يقوم عليها المشروع الصهيوني. وفي التقرير العلمي الأحدث، الذي أعدته منظمة التحرير الفلسطينية، وتم فيه رصد السياسات الإسرائيلية الأحادية في القدس الشرقية المحتلة والدعم المطلوب لمواجهة سياسية التهجير للإنسان والمؤسسات من "زهرة المدائن"، نطالع عنواناً كبيراً حول تطبيق قانون ما يسمى "أملاك الغائبين"، الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في عام 1950، وقد استهدف أساساً أراضي من وصفهم القانون بـ"الغائبين"، فاستطاع اليهود بموجبه الاستيلاء على منازل "الغائبين" وحوانيتهم وأموالهم ومشاغلهم ومخازنهم وحتى على أثاث بيوتهم. وخلال الفترة التي تلت حرب 1948، تم التوسع الاستعماري "الاستيطاني" بواسطة سلسلة من القوانين -زاد عددها عن ثلاثين قانوناً- يكمل بعضها البعض بشكل يتيح للدولة الوليدة الاستيلاء على الأرض الفلسطينية التي هُجّرَ منها ساكنوها، وكذلك أراضي من بقي منهم فيها. وقد هدفت هذه القوانين إلى إضفاء الشرعية على الاحتلال الذي تم بفعل القوة والاغتصاب، مثلما أنها ضمنت السيطرة على ما بقي من أراضي الفلسطينيين، تحت سـتار الأمن والمصلحة العامة. ويبرز قانون "أملاك الغائبين" كواحد من أغرب القوانين في العالم. فهو يسمح للمحتل بمصادرة أملاك من تركوا أرضهم خوفاً من القتل والإبادة، حتى وإن كانوا قد انتقلوا إلى قرية مجاورة لبضع ساعات فقط، أو أولئك الذين ظلوا ليعيشوا في دولة الاحتلال. ويحتوي القانون على بنود تعسفية تعطي المحتل صلاحية وضع اليد على الأراضي، وهو قانون عنصري من الدرجة الأولى، وإجراء ترفضه جميع القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، كما أنه يشكل خرقاً سافراً لنص قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1947. وخلاصة القول إنه قانون يوضح، بدون أدنى شك وبصورة قطعية، الموقف الإسرائيلي الرافض لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم خلافاً لما قضت به قرارات الأمم المتحدة. وفي عام 1967، أحصى الاحتلال الإسرائيلي السكان الفلسطينيين في القدس، وأجبرهم خلال 3 أشهر على استصدار بطاقات هوية إسرائيلية واعتبر كل من لم يكن موجود آنذاك في حكم "الغائب"، سواء من كان في الضفة الغربية أو من كان في قطاع غزة أو أي مكان آخر خارج أراضي 1948، واعتبر أرضهم "متروكة"، وسارع إلى تطبيق قانون "أملاك الغائبين". وفي الوقت ذاته، باشرت "مؤسسة القيم على أملاك الغائبين" الإسرائيلية تنفيذ مخطط يقضي بوضع اليد على أملاك "الغائبين المقدسيين" وإيداع هذه العقارات في أيدي الجمعيات "الاستيطانية"، إما بتأجيرها أو بيعها لها في مسعى لتهويد "زهرة المدائن" باعتبارها "العاصمة الأبدية الكبرى لدولة إسرائيل"! وفي السياق ذاته، أوضح تقرير جديد لـ"الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق المقدسيين" أنه منذ عام 1967، "تمت إقامة خمس عشرة مستوطنة يهودية في شرقي القدس، وأنه حتى يومنا هذا يعيش أكثر من 210 آلاف مستوطن في الشطر الشرقي من المدينة، وأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي صادرت 35 في المئة على الأقل من أراضي القدس لصالح الاستيطان وبناء المستوطنات تحت حجة المنفعة العامة"، مشيراً إلى أن "40 في المئة من المستوطنات أقيمت على أراض فلسطينية خاصة الملكية ومصادرتها". كما بين التقرير أن "22 في المئة من أراضي القدس مصنفة كأراض خضراء، وأن 30 في المئة منها مصنفة كأراض غير مخططة، مما يترك 13 في المئة فقط من الأرض للاستخدام الفلسطيني". وختم التقرير بالقول: "نتيجة لذلك، فإن الأحياء الفلسطينية في شرقي القدس تعاني من نقص حاد في عدد الوحدات السكنية يبلغ 42 ألف وحدة، وأن 87 في المئة من أراضي شرقي القدس لا يمكن استخدامها من قبل الفلسطينيين المقدسيين". كما أوضح أن سياسة الاحتلال عملت من أجل "الحفاظ على أغلبية يهودية في المدينة بواقع 70 في المئة يهودا، و30 في المئة عربا، حيث يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في القدس 307 آلاف نسمة". إن تطبيق قانون "أملاك الغائبين" ليشمل الممتلكات المحجوزة من قبل المؤسسات الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة يندرج في سياق مخططات صهيونية للإطباق على المدينة وتهويد كافة مناحي الحياة وصولاً إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي لصالح التواجد اليهودي في المدينة. وفضلاً عن ذلك، فقد أضفى "القانون" صفة "قانونية" على مصادرة الممتلكات الفلسطينية وحوّل تلك الأرض لاستخدام اليهود فقط، دون دفع أي تعويض للمالكين الفلسطينيين الأصليين، هادفاً لجعل العرب المقدسيين في القدس أقلية لا تتجاوز نسبتهم 12 في المئة من سكان المدينة في عام 2020. وفي ظل جدار الفصل العنصري، بالتوازي مع تطبيق "أملاك الغائبين" على مدينة القدس، فإن المؤسسات "الاستيطانية" باتت قادرة على تنفيذ القانون المذكور لمصادرة الأرض الواقعة إلى الغرب من الجدار وعدم دفع أي تعويضات لمالكيها الفلسطينيين، حتى أن مساحة الأراضي التي ستتأثر بتطبيق القانون لا يمكن معرفة حجمها، وذلك منذ استيلاء الاحتلال على سجلات كل الأراضي الفلسطينية المستأجرة في القدس المحتلة بعدما تم إغلاق بيت المشرق في أغسطس 2001. تثبت الوقائع والحقائق على الأرض وجود عمليات إسرائيلية للنصب والاحتيال وتزوير ملكية أراض وعقارات وممتلكات في القدس، وبالذات في البلدة القديمة والشيخ جراح وسلوان وشعفاط وبيت حنينا. وقد أصبح هذا القانون بمثابة السيف المصلت على رقاب المقدسيين. فكل عقار أو أرض لها أهمية أو قيمة استراتيجية، يمكن لدولة الاحتلال تملّكها في إطار خدمة التوسع الاستعماري "الاستيطاني" أو خلق تواصل ما بين البؤر والمستعمرات في المدينة. ولقد كشفت صحيفة "هآرتس" مؤخراً عن بدء تسجيل الأراضي التي استولى عليها "المستوطنون"، بشكل التفافي، إلى "الطابو"، من أجل منع الفلسطينيين من الاعتراض على تسجيلها. كما أكدت الصحيفة حصولها على وثائق تثبت أن عملية تسجيل الأراضي واسعة جداً وتمت مناقشتها على أعلى المستويات بسبب حساسيتها السياسية والقضائية فباتت تحظى بتأييد القائم بأعمال المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، والمستشار القضائي لوزارة الأمن، ورئيس "الإدارة المدنية"، ومستشار وزير الأمن لشؤون الاستيطان، رغم أن هذه الأراضي تم الاستيلاء عليها لأسباب أمنية، وأقيمت عليها معسكرات للجيش، ومن ثم جرى تحويلها إلى المستعمرين لبناء "المستوطنات"! فأين أنتم من كل هذا، يا معشر المسلمين والعرب؟!