غادر والدي بيته الطيني في القرية الفقيرة بأعماق الريف الباكستاني، وجاء إلى أميركا آملاً في الحصول على بعض التدريب الفني، ولم يكن في نيته أن يقع في هوى تلك البلاد، لكن هذا بالفعل ما حدث ويحدث عادة مع من يأتون إليها، وهو ما يجعل العالم أفضل في ذات الوقت. سجّل والدي في جامعة "نورث كارولينا سيت" منذ ما يزيد عن خمسين عاماً وحصل على بكالوريوس في الهندسة. وفي أثناء زيارة قصيرة قام بها لباكستان، قابل والدتي في حفل زفاف. لم يكن ذلك حفل زفاف أصدقاء أو أقارب، وإنما كان حفل زفافهما، حيث كانت المرة الأولى التي رأيا فيها أحدهما الآخر في ذلك اليوم. كان زواجاً مرتباً ومعداً له سلفاً كما نصفه نحن أبناء اليوم. وعندما عاد والدي إلى أميركا بعد الزفاف مصحوباً بوالدتي، كان القرار الذي اتخذه الاثنان هو البقاء فيها لسنوات قليلة بسبب ما تتيحه من فرص للحصول على وظيفة، لكنهما حصلا من أميركا على أكثر مما كانا قد خططا له في بداية الأمر. إن هذا الولع بأميركا والرغبة في البقاء على أرضها لدى كل من يأتي إليها لأي سبب من الأسباب، هو ما شرحه لي رئيس جامعة كان يرى أن الطلاب الأجانب على وجه التحديد الذين يأتون لأميركا، عرضة للإصابة بتأثير غريب يغلف خططهم ويغير أحلامهم. وهذا التأثير يجعل أولئك الطلاب عندما يعودون لأوطانهم بعد انتهاء دراستهم، يتمنون لو أن ذلك الوطن كان مثل أميركا، وهو ما يدفعهم لبذل قصارى جهدهم لجعله كذلك. لكن المصابين بذلك التأثير لا يعودون لوطنهم في معظم الأحيان، وإذا ما عادوا فإنهم لا يمكثون هناك طويلاً وسرعان ما يعودون لمهبط أحلامهم الجديد. وعندما يتملك الولع بأميركا شخصاً ما فيعشقها بجنون، فإنه يبدأ ينظر إليها بعين المحب، أي بتلك العين التي لا ترى عيباً في المحبوب على الرغم من أن ذلك العيب قد يكون واضحاً تمام الوضوح. وهناك إحساس آخر ينتاب عاشق أميركا الولهان، وهو ذلك الإحساس بأنه قادر على أن يكتب سيناريو حياته بقلمه هو وليس بقلم عائلته أو بإملاء ثقافته. وعندما يعود المهاجر إلى وطنه لزيارة أهله من حين لآخر، فإنه يحس بأن هناك فساداً أكثر من اللازم في هذا الوطن، وقدراً كبيراً من عدم الفاعلية والقدرة على الإنجاز. وهذا الشعور يدفع المرء للانجراف -بالتدريج- بعيداً عن ثقافته، كما حدث معي شخصياً ومع إخواني الآخرين. هناك بلا شك أشياء كثيرة في أميركا قد لا يرضى الشخص عنها، وربما لا يحبها إطلاقاً، وقد يقضي الليل ساهراً ينفث غضبه مغتاظاً منها، لكنه رغم ذلك يحس أنه مرتبط بهذا البلد برباط غريب لا ينفصم. وهذا الانجراف بعيداً عن الوطن والثقافة الأصليين، يستتبع قدراً أكبر من الحرية يجدها مهيمنة هنا وهو ما يجد جذوره في حقيقة أن من عبروا المحيط وجاؤوا إلى هذا البلد في بداية الهجرة من أوروبا إليها قد جاؤوا بحثاً عن حرية افتقدوها في الأوطان وخصوصاً الحرية الدينية. وهذه الحرية التأسيسية التي قاتل المهاجرون الأوائل وما توا من أجلها، حمت حرية الضمير وجعلت الناس قادرين على الاختيار بين الالتزام الديني والعبادة أو عدم الالتزام حسبما يريدون. وهذه الحرية، وهنا المفارقة، تساعد على جعل نسخة الإسلام المتطرف التي نراها سائدة في أرجاء عديدة من العالم، في الوقت الراهن، أكثر اعتدالاً على نحو تدريجي، وهو ما يتبدى من خلال حقيقة باعثة على التأمل والدهشة، وهي أن أميركا ومنذ وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، لم تتعرض لأي حادث إرهابي كبير. قد يقول قائل إن ذلك ربما يرجع للحظ، أو للجهود الفائقة التي قام بها المسؤولون الحكوميون والأجهزة الأمنية في مختلف المجالات المتعلقة بحماية أميركا من مخاطر الإرهاب. لكن هناك سبباً آخر جعل هؤلاء الإرهابيين عاجزين عن إحداث جروح هنا منذ ذلك اليوم المشؤوم. إنه السبب الكامن في مكان آخر، كما يرى خبير استخبارات في حديث له منذ عدة سنوات، ألا وهو" أن الكثيرين من هؤلاء الأشخاص المتشددين دينياً يفقدون روح التطرف والدافع القتالي عندما يتزوجون ويحصلون على وظائف ويطفئون النار التي كانت مشتعلة في صدورهم، فيقولون: مرحباً بأميركا". مرحباً بأميركا... حقاً! لقد كان والدي ووالدتي يتحسران أحياناً على أنني وشقيقي الأكبر كنا نتحول لنصبح أقل تمسكاً بالعادات والتقاليد الباكستانية مما كانا يأملان، لكنهما تعايشا مع هذه الحقيقة في نهاية المطاف، وكانا لا يترددان في أن يكررا على مسامعنا أحاديث العرفان لأميركا وهي أحاديث أعتقد أنها ستتكرر مع كل عائلة تمر بالتجربة التي مررنا بها كمهاجرين لأميركا وسيكررها بقية الآخرين الذين لولا أميركا لكان حالهم قد اختلف أيما اختلاف، ذلك لأنها هي التي جعلت من نفسها مكاناً أفضل لعشاقها من المهاجرين وجعلت من العالم كله أيضاً مكاناً أفضل. روب أصغر زميل مركز الديمقراطية العامة التابع لجامعة ساوثرن كاليفورنيا وعضو مجلس الباسيفيكي للسياسة الدولية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"