ليست المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الوحيدة في أوروبا التي تبدو مقتنعة بأن الأزمة الأوروبية، التي باتت سياسية بقدر ما هي اقتصادية، لا يمكن حلها إلا بالمضي قدماً على طريق الوحدة والاندماج والدفع في اتجاه تشكيل اتحاد أوروبي موحد بمؤسسات فيدرالية وبسلطة مركزية. هذه الصيغة التي تطرحها ميركل، ومعها العديد من القادة الأوروبيين، ليست مقتصرة فقط على ألمانيا، بل تمتد أيضاً إلى باقي الدوائر الأوروبية وكبار الموظفين، فضلاً عن الأكاديميين والمجموعات المهنية المهتمة بمستقبل أوروبا. لكن ماذا لو قررت أوروبا الرجوع إلى الوراء قليلاً بدل الاندفاع إلى الأمام؟ الحقيقة أن ما أراه في المشروع الأوروبي هو خطوات نحو فيدرالية لم تفض بالضرورة إلى تحقيق النتيجة المرجوة، بل خلقت الكثير من التعقيدات والضغوط على الصرح الأوروبي، وكان الفشل الذي مني به الدستور الأوروبي الدليل الأبرز على إخفاق خطوات الفيدرالية. والسبب بسيط؛ فكل إجراء تتخذه أوروبا نحو مزيد من الاندماج والوحدة يكشف في العمق عوامل الفرقة والاختلاف الكامنة في البنية الأوروبية، كما أن هذه الخطوات الوحدوية لم تسهم سوى في إبعاد أوروبا عن الأهداف التي حركت خطواتها الأصلية. فالدافع الأساسي الذي قاد آباء الاتحاد الأوروبي، مثل "روبرت شومان"، و"جون موني"، و"كونراد إدناور"، إلى تبني صيغة الاتحاد الأصلية، كان هو خلق علاقة جديدة بين فرنسا وألمانيا تجعل من نشوب حرب عالمية ثالثة أمراً مستحيلاً، فكان الاقتراح المبدئي واضحاً وسهلاً: وضع الصناعات الحربية للبلدين تحت سلطة رقابية واحدة، وهو ما تحول لاحقاً إلى مجموعة الفحم والفولاذ التي قامت في عام 1951، وكل ما لحق من خطوات منذ ذلك التاريخ وحتى أزمة 2012، ناتج عن تلك البداية. ولا ننسَ أن ألمانيا وفرنسا، ومعهما إيطاليا ودول "البينيلوكس" التي انضمت إلى المجموعة الأوروبية، تقتسم تاريخياً الأسس الثقافية التي قامت عليها الحضارة الغربية، وقد ظلت المحرك لتلك الكتلة التاريخية والبشرية منذ أن أنهت القبائل الجرمانية حكم روما وحررت أوروبا من السيطرة السياسية التي مارستها الإمبراطورية الرومانية، حيث ظهرت على أنقاضها الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي أسستها كل من مملكة شارلمان في ألمانيا بالتعاون مع الملكية الفرنسية لتصبح مملكتهما قلب الحضارة الغربية والمؤسس الفعلي لأوروبا الغربية، كما نعرفها اليوم. وبالإضافة إلى هاتين المملكتين، أصبحت المدن الإيطالية المزدهرة ودويلات شمال أوروبا التي انعتقت من السيطرة الإسبانية، ملحقات ثقافية لفرنسا وألمانيا مشكلةً معهما صلب أوروبا الغربية، بل إن فرنسا بعد ذلك تمكنت من احتلال بريطانيا لتطلق حرب المائة عام. وعلى كل حال، كانت مجموعة الفحم والفولاذ التي أنشت في الخمسينيات تعبيراً واضحاً عن تصميم أوروبي راسخ على عدم السماح بمحاولة انتحار أوروبي ثالثة على غرار 1914 و1940، ومنذ ذلك الوقت أضاف الاتحاد إليه عدداً من الدول الأوروبية التي كادت تغطي مجمل القارة. وعلى مدار السنوات تم إحداث سوق مشتركة ومنطقة تجارة حرة، ثم تحويل أوروبا بموجب معاهدة "شينجن" إلى فضاء للتنقل الحر. وهكذا تحولت أوروبا إلى مجموعة من دوائر النفوذ والقوة المتداخلة مع بعضها البعض، متيحةً وظيفةً ضروريةً لمجمل البناء الأوروبي. لكن المشكلة هي اعتقاد البعض داخل أوروبا أن هذه الصيغة من الوحدة التي تحفظ استقلال الدول ليست كافية، فأنشأت العملة الأوروبية الموحدة من دون وجود المؤسسات الداعمة لها. ولعل الدافع الأقوى الذي حرك أوروبا في ذلك الاتجاه، كان محاولة الأوروبيين استلهام التجربة الأميركية التي أصبحت نموذجاً للقوة والنجاح، لكنه مارس تأثيراً مدمراً على التصورات السياسية للقادة الأوروبيين الذين سعوا إلى استنساخ نموذج الولايات المتحدة وخلق أوروبا موحدة توازي أو تضاهي السطوة الأميركية، وهو أمر دونه مستحيلات، كما بدأ يعترف الأوروبيون أنفسهم. فقد تحدث كاميرون عن أوروبا بسرعات مختلفة، كما يتحدث الألمان عن منطقة يورو في شمال أوروبا وأخرى خاصة بالمتوسط جرّاء الاختلافات الثقافية والتنوع السياسي بين الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين واليونانيين من جهة، وبين الألمان والسويديين والهولنديين والدنماركيين والبريطانيين من جهة أخرى. وعدا الاختلافات اللغوية والثقافية بين الأوروبيين، والتي تعوق تشكل اتحاد على شاكلة الولايات المتحدة، هناك التجربة التاريخية التي تظهر بشكل واضح في القوة العسكرية؛ فمن يمتلك قوة عسكرية مهمة في أوروبا هو بريطانيا وفرنسا فقط، إذ تتوفران على تقاليد عسكرية عريقة، ومستعدتان لإنفاق الأموال على القوات المسلحة. ففرنسا مثلاً تفخر بامتلاكها اكتفاءً ذاتياً في المجال العسكري، وبريطانيا رغم تبعيتها للولايات المتحدة تبقى قادرة على العودة مجدداً إلى بناء قوات مستقلة تماماً. لكن لماذا هذه القوة العسكرية لفرنسا وبريطانيا؟ مرة أخرى يسعفنا التاريخ بالإجابة عن السؤال؛ فالبلدان كانا قوتين إمبرياليتين، ورغم تراجع نفوذهما، ومعهما نفوذ قوى سبقتهما مثل إسبانيا وهولندا وإيطاليا، لعوامل سياسية وثقافية، ظل الاعتقاد راسخاً لدى الأوروبيين بإمكانية ممارسة النفوذ من خلال القوة الرخوة، مثل الثقافة والاقتصاد والدبلوماسية. والخلاصة التي أريد الوصول إليها أن مكانة أوروبا يمكن الحفاظ عليها من خلال دوائر القوة والنفوذ المتداخلة التي تعكسها الدول المستقلة داخل الاتحاد الأوروبي، أكثر من السعي إلى تقليد الولايات المتحدة المستعصي نموذجها على الأوروبيين. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"