بعد سنوات من التفاؤل الذي ساد أجواء الاقتصاد الهندي، عاد النمو قبل سنتين فقط ليدخل مرحلة من التباطؤ، كما ارتفع العجز القومي، وزاد معدل التضخم بعدما كان قد انخفض بين مطلع 2010 وبداية 2012، بل حتى الخطط التي كانت جارية على قدم وساق لبناء أمة متجانسة ومندمجة تواجه معضلات كبرى في ظل الفوارق المتنامية في الدخل بين فئات المجتمع، والنقص الذريع في وصول الهنود إلى الخدمات الأساسية مثل المياه والرعاية الصحية، وتطهير المياه، هذا في الوقت الذي تعاني فيه الديمقراطية من بعض المشاكل، لا سيما في ظل غياب قيادة سياسية فعالة قادرة على مواجهة التحديات، لتتوقف تماماً عملية اتخاذ القرار ولتبدو البلاد معطلة كلياً. لكن رغم كل هذه المشكلات الاقتصادية المستجدة، لا يبدو الوضع الاقتصادي العام في الهند كارثياً حتى بتركيزنا على الفترة الأقل فاعلية الممتدة ما بين 2009 و2012، فالاقتصاد كان معتلًا حتى قبل 2009 عندما انطلقت الأزمة على الصعيد العالمي، ووصلت إلى الشواطئ الهندية، حيث برزت سلسلة من أسباب الضعف ظلت لصيقة بالاقتصاد لأمد طويل. فعلى سبيل المثال لم تُحل سياسة تحرير الاقتصاد في السنوات الماضية التي انخرط فيها القادة السياسيون من بقاء بعض أشد القواعد صرامة في إطلاق الشركات التي ما زالت تواجه مناخاً متشدداً يصعب من مأموريتها. لكن هذا الضعف أيضاً عليه ألا يحجب مكامن القوة المتاحة لدى الاقتصاد الهندي ومنها على سبيل المثال أن معدل ادخار الأسر الهندية ما زال فوق 30 في المئة مقارنة بمعدل 5 في المئة بالولايات المتحدة، ووفقاً لمكتب الإحصاء المركزي الهندي يظل الاستهلاك الداخلي في البلاد مرتفعاً بحيث يصل إلى 60 في المئة مقارنة بحوالي 48 في المئة بالصين، هذه الأرقام الإيجابية تعني أن صعوبات الاقتصاد الصيني لم ترهق كاهل الجمهور ولم تحد من استهلاكه ولم تدفع الشعب إلى الاعتماد على مدخراته لمواجهة الأزمة، بل الأكثر من ذلك ظلت شهية الهنود لاستهلاك السلع والخدمات مفتوحة على آخرها. وبعبارة أخرى وكما كان عليه الحال في 2009 ما زالت الهند قادرة على تصنيف نفسها كإحدى القوى الاقتصادية الكبرى في العالم، وأن مشاكلها المزمنة لم تحد من صدارتها للقوى الصاعدة على المستوى العالمي، تبقى المشكلة الأساسية فقط في الطريقة التي تمارس بها السياسة. فمن جهة تعاني السياسة الهندية من تشرذم كبير وتشظي لافت ما يجعل الوصول إلى تفاهمات، أو توافق صعباً للغاية، ومن جهة أخرى تواجه سلطة السياسيين تآكلا مهماً بسبب العجز في تحقيق الإنجازات والاهتمام بخدمة مصالحهم الخاصة، فبدلاً من أن تقر القيادة السياسية بفشلها وتعمل على استعادة مصداقيتها قامت بالتنصل من مسؤولياتها والتخلي عنها، فمثلاً نادراً ما تتحدث قيادة حزب "المؤتمر الوطني الهندي" في البرلمان، أو تدلي بأحاديث صحفية، وعندما يفعلون يشتكون من مشاكل الحكم في الهند وكأنهم ليسوا جزءاً من الحكومة الهندية. لكن وحتى لا نبخس "حزب المؤتمر" حقه تعيش الهند حالياً على وقع إصلاح شامل لثقافتها السياسية يصعب على أي حزب مهما كان التعامل معه. فحتى وقت قريب كان السياسيون والبيروقراطيون في الهند يقتسمون أربعة مبادئ عامة في الإدارة يعتمدون عليها في إدارة شؤون البلاد وهي: المحاسبة العمودية، والحذر الشديد في إبداء المواقف واتخاذ القرارات، والسرية التامة، ثم المركزية في ممارسة السياسة، كل هذه المبادئ ساهمت في تكريس حكومة تمثيلية، لكنها لا تستجيب لانتظارات الرأي العام، واليوم لم تعد هذه المبادئ ملائمة للوضع الحالي والتطورات الجديدة، وبالطبع سيستغرق التحول من الطريقة القديمة في الإدارة إلى أسلوب جديد بعض الوقت، ولا يبدو أياً من الأقطاب السياسية سواء حزب "المؤتمر الوطني"، أو منافسه، حزب "باهاراتيا جاناتا" قادراً على تسخير الوعي بضرورة التغيير للقيام به فعلا. وفي هذا السياق، يتعين على حزب" المؤتمر الوطني" الموجود حالياً في السلطة القيام بتغييرات مهمة تطال أولًا التركيز على الأداء من خلال تطهير هياكله المركزية من مجموعة من الأعضاء والوزراء، فالحزب يعتمد على هياكل مركزية تتيح له تغيير الوجهة بالسرعة المطلوبة لو أراد ذلك، وثانياً يحتاج الحزب إلى إعادة السلطة إلى مكتب رئيس الحكومة، إذ معروف اليوم أن السلطة الحقيقة تكمن في أيدي عائلة "غاندي"،مع احتفاظ "سينج" بسلطة صورية يتحمل بموجبها المسؤولية دون الإسهام الحقيقي في اتخاذ القرارات الكبرى. ولعل ما يخدم مصالح حزب المؤتمر الوطني في هذه المرحلة هي الصعوبات التي يواجهها خصمه "باهاراتيا جاناتا" فيما يتعلق بتأمين الخلافة السياسية داخله، وتنظيم المسائل التنظيمية، فالحزب يعاني من تمرد بعض أعضائه في ولايات هندية متعددة على القيادة المركزية، ومؤخراً فشل الحزب في صياغة أيديولوجية متماسكة ورؤية واضحة للمستقبل. ومع أن المواجهة بين الحزبين ما زالت بعيدة بالنظر إلى موعد الانتخابات التشريعية في 2014، فإن الطرف الذي سيدرك بأن الهند تعرف تغييرات جوهرية وأن أساليب الحكم القديمة ما عادت صالحة اليوم هو من يمتلك أوفر الحظوظ للفوز، وفي النهاية لا بد من التأكيد على أن مستقبل الاقتصاد الهندي يعتمد على الطريقة التي تُمارس بها السياسة في البلاد، وهو أمر جيد وسيء في نفس الوقت، فمع أن السياسة في الهند ستغرق دائماً في أسلوب حافة الهاوية وانعدام الكفاءة أحياناً، إلا أن الإيجابي في الأمر قدرة السياسيين الهنود على التأقلم السريع وإعادة تشكيل أنفسهم وفقاً للمعطيات المستجدة، فهم قادرون على تغيير المسار سريعاً إذا أرادوا ذلك، وليس هناك أفضل من وقت الأزمة لتركيز الجهد وحشد الإمكانات، لا سيما وأنه من غير المتصور أن روح المبادرة الخاصة التي تم إطلاقها قبل سنوات، وقوة المجتمع المدني المتنامية، والشعور بالأمل لدى فقراء الهنود بمستقبل أفضل يمكن تعطيلها لفترة طويلة، وليس القلق والارتباك الذي يعتري الساسة الهنود في هذه المرحلة سوى اعتراف منهم بأن شيئاً ما جديد يتشكل في الأفق. بارتاب بهانو ميهتا مدير مركز أبحاث السياسات في نيودلهي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"