أول احتكاك للأزهر مع الرئيس المصري الجديد، حدث عندما انسحب شيخ الأزهر من حفل التنصيب في جامعة القاهرة قبل أن يلقي الرئيس مرسي كلمته، عاتباً على بروتوكول رئاسة الجمهورية عدم تخصيصها مقاعد لهيئة كبار العلماء في الصف الأول لقاعة كبار الضيوف كما ينبغي أن يكون. كان على شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن يتخذ هذا القرار، فهو يمثل مركز الأزهر ومكانته، وهيبة هؤلاء العلماء، في الوقت الذي يترقب فيه الجميع كيف سيعامل الرئيس المنتمي لجماعة "الإخوان المسلمين" سلطة الأزهر، وأين سيكون موقعه في فكر الدولة الجديدة؟ كان على الإمام الأكبر أن يقوم بذلك، وكان على الرئيس أن يتصرف أمام هذا الموقف. فاللقاء الأول هو الذي يفصح سبر الود بينهما وكيفية ردة الفعل ترسم نمط العلاقة المرتقبة، والبروتوكول هو مفتاح التعرف على مكانتك عند الطرف الآخر، وموقعك في المناسبة التي تحضرها. الرئيس الجديد كما قالت الأخبار اتصل بشيخ الأزهر وأبدى تقديره واعتزازه بالأزهر الشريف وشيخه وهيئة كبار العلماء، مشيداً بالدور المتميز له على المستوى الوطني والعربي والإسلامي والعالمي، والذي يجسّد سماحة الإسلام وعظمته ووسطيته، معرباً له عن استيائه البالغ من تصرف القائمين على بروتوكول رئاسة الجمهورية خلال الاحتفالية. في هذه المرحلة أمام السلطة والمجتمع المصري والأزهر معاً فرصة تاريخية لأن يعود هذا الرمز الشامخ إلى لعب دوره التنويري والقيادي على مستوى الأمة الإسلامية التي هي في أمس الحاجة إلى مؤسسة دينية معتدلة ترشدها وتجمعها وتوحد أمرها، وكذلك على صعيد القطر المصري، فالصراع الذي تعيشه الساحة هناك، واستقواء التيارات الإسلامية المتشددة والذي يقابله ردة فعل التيارات الأخرى المضادة، كالليبرالية واليسارية والقومية، ولغة الهجوم، والهجوم المضاد، وتصيد الأخطاء، والبحث عن هفوات البعض... الجميع يحتاجون إلى تيار وسطي يقارب بينهم، ويخفف من شططهم وخلافاتهم، والأزهر هو الأجدر بلعب مثل هذا الدور التوفيقي، ولتقوية عناصر الدولة الوطنية، والتي ذكّر بها شيخ الأزهر في رسالة التهنئة التي بعثها إلى الرئيس المنتخب، حيث ذكّره أيضاً بعهوده للأمة بأن يكون رئيساً لكل المصريين، على اختلاف آرائهم وعقائدهم الدينية، وانتماءاتهم الحزبية، فهو الآن ممثل لهم جميعاً، ولابد أن ينسى أي وصف آخر. الأزهر الشريف، معقل علوم الإسلام، ينتظر من الرئيس الجديد أن يقيم الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة على دعائم ثابتة من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية وفضائل الإسلام التي تمثل القيم العليا التي يجتمع عليها الجميع. والأزهر يبدو على تقارب مع الجميع، فهو له موقف عقلاني من الثورة، حيث كانت دعوته منذ بداياتها إلى تحكيم العقل، وتجنب الانزلاق إلى حالة الفوضى، وما قد تجره من دمار وويلات على مصر. هذا الموقف الرشيد في الظروف العاطفية الصعبة يحسب له، وكما وصفه وزير خارجية تركيا أحمد دواوود أوغلو خلال زيارته الأزهر بقوله: "إذا كانت الثورة في مصر استطاعت أن تحافظ على سلميتها، فإن للأزهر دوراً كبيراً في ذلك، فقد استطاع أن يجمع كافة التيارات السياسية والحزبية على كلمة سواء، في فترة حرجة من تاريخ مصر الحديث. فمصر محظوظة أن حباها الله بالأزهر الشريف على ترابها". تاريخ الأزهر هو في الواقع جزء من تاريخ هذه الأمة وما مرت به من انتصارات أو انتكاسات، فعلى مدى ألف عام مرت عليه من المتغيرات والمفاجآت، وقف شاهداً وصوتاً معبراً عنها في عصور مجدها، وإن تراجعَ وضعُفَ وقيّدته السلطة عندما هانت الأمة. لقد أسسته الدولة الفاطمية عندما كانت قوية في مصر الضعيفة آنذاك، وحلمت به أن يكون مركزاً لنشر التشيع ومرجعاً لفكرها، لكن الأزهر انتفض ورفض ذلك مع الزمن لأن الشعب ظل محافظاً على مذهبه رغم تقلبات أهواء وفكر الدول التي حكمته. زالت الدولة الفاطمية وبقي الأزهر الشريف مكانه، منارة إشعاع، يفرض كلمته على الحكومات والشعوب بوصفه المرجع الأول لعلوم الإسلام السني. كان يفتي ويؤخذ بقوله، يأمر ويستجاب لأمره، كانت له سلطة عظيمة على المسلمين السنة، وأينما وجد الإسلام وصل صوت الأزهر. كانت تلك القوة مستمدة من موقعه الديني ومن علم الفقهاء وقوة الشخصيات الإسلامية والوطنية التي انتسبت أو تخرجت من جامعته. وفي أحوال مصر وتقلبات الحكومات التي تعاقبت عليها، حاولت أن تضع الأزهر تحت سلطتها، فتحول إلى مؤسسة مدنية ذات شأن ديني تابعة للحكومة المصرية. وخفت بريقه في العالم الإسلامي، اللهم إلا في الحالات المختلف عليها، وعندما يراد تسييس الدين لخدمة أطياف أو مصالح أو أطراف، مثل الفتوى القائلة بأنه "يجوز للدولة الكافرة أن تلزم المسلمات بخلع الحجاب"، أو فتوى السلام مع إسرائيل، أو فتوى إرضاع الكبير، أو فتوى جلد الصحفيين..! وحسناً فعلت دولة الإمارات عندما اهتمت بدعم مجهودات الأزهر وتعزيز مكانته العلمية والدينية ليكمل رسالته في خدمة العالم الإسلامي، والمساهمة في حفظ وثائقه التي هي في الواقع تاريخ هذه الأمة وتراثها، فمذكرة التفاهم التي وقعتها وزارة شؤون الرئاسة مؤخراً لتمويل ودعم مشروعات وبرامج الأزهر بكلفة 155 مليون درهم، وكذلك مشروع "الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لحفظ وأرشفة مخطوطات الأزهر" ونشرها إلكترونياً والذي يتضمن عشرات الآلاف من الوثائق والمخطوطات النادرة... تصب جميعها في خدمة الأمة ومؤسساتها العريقة التي سطع نجمها وتوهج بريقها وأنارت الطريق لأجيال ودول في أزمنة متعددة. هذا الإنجاز سيسهل على الدارسين ويخدم الباحثين في أي مكان تستخدم فيه الشبكة الإلكترونية. إنه واحد من أعظم المشاريع التي تخدم الإسلام والعربية والعلوم وتاريخ الأزهر في عصر التكنولوجيا والإنترنت. بقية الدول الإسلامية، والعربية منها تحديداً، مطالبة بأدوار داعمة تهتم بنشاطات الأزهر والجهات التابعة له، فدولة مثل ماليزيا مثلاً قررت إنشاء مشروع بجامعة الأزهر يتضمن 26 مبنى سكنياً لطلبتها الدارسين. إن دعم كيان ومكانة الأزهر ومشاريعه يعني المساهمة في تقوية ونشر الفكر الإسلامي المعتدل، وإحياء الصورة الإيجابية والحقيقية عن هذه الأمة عند الشعوب الأخرى والتي شوهت بالأفكار الشاذة التي غذّتها الجماعات المتطرفة، ومفهوم الإرهاب ومنظر القتل والتفجيرات والوجوه الغليظة العابسة دوماً المتشحة بالسواد والسلاح والتي تهدد الجميع بالموت والعذاب والدمار... الأزهر لو قوي يمكنه أن يقول غير ذلك.