كان صعباً على الليبيين أنفسهم، وعلى المراقبين من الخارج، توقع ملامح دقيقة للخريطة السياسية التي ستنبثق من انتخابات المجلس الوطني. فنسبة الستين في المئة التي اعتمدها قانون الانتخاب لـ"المستقلين" مقابل أربعين في المئة للأحزاب والتكتلات، انطوت على حكمة وسعي إلى توازن بين القوى السياسية وبين الحقائق العميقة للمجتمع. قد لا تجري الوقائع وفقاً للمتوخى، خصوصاً إذا كان المستقلون حزبيين متنكرين، إلا أن مجرد التوافق المسبق على منع أي هيمنة لحزب بعينه دلّ عملياً على رغبة في الانطلاق بتجربة تتيح لمعظم الفئات بأن تكون ممثلة وموجودة في أول هيئة منتخبة في ليبيا منذ عقود. استفاد الليبيون في ترتيب استحقاقات المرحلة الانتقالية وتشريعاتها من التجربتين المصرية والتونسية، كما أظهروا إدراكاً عميقاً لخصوصيات مجتمعهم والموقع المتقدم الذي تحتله القبيلة فيه، بل تبينوا أن القبيلة هي التي استطاعت أن تحافظ على حقائق البلد والشعب في مواجهة نظام أراد أن يمزق النسيج الاجتماعي ويدمّره لتتأمن له سيادة تامة ومديدة. ولعل أحد أهم ملامح التأثر بالنموذج المصري أن المجلس الوطني الانتقالي -الموازي هنا للمجلس العسكري في مصر- عمد قبل يومين من الاقتراع إلى إخراج هيئة إعداد الدستور من صلاحيات المجلس الوطني وجعلها منتخبة مباشرة، لئلا تتكرر إخفاقات مجلس الشعب المصري في اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. يستدل من لائحة القوى الرئيسية التي أبرزتها الحملة الانتخابية أن المجلس المنتخب سيكون، بحزبييه ومستقليه، أقرب إلى "موزاييك" لا يغلب عليه لون واحد، فالمستقلون سيحدّون من هيمنة الإسلاميين، وهؤلاء سيحاولون استمالة أكبر عدد من المستقلين. ولعل اضطرار الجميع للتحرك تحت عباءة القبيلة سيمكّن هذه من ضبط الإيقاع، فلا أحد يلغي أحداً، لكن استخدام الدين للمزايدة السياسية لن يفيد الأحزاب السياسية لانتزاع السلطة، التي تملكها القبيلة. وتبين خلال الحملة الانتخابية أن الإسلاميين وعوا ضرورة المرور بالقبيلة بدل العمل خارجها أو منافستها. أياً ما تكون النتائج سيُقال إن الإسلاميين في ليبيا احتلوا الواجهة ليؤكدوا أن الموجة نفسها مستمرة، كما في مختلف البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية وتحولات سياسية. وسيسعى هؤلاء إلى "تخصيب" النتائج التي يحرزونها واقعياً، بحيث تبدو أكثر نفاذاً وفاعلية على المستوى العملي. وتعتبر التوصية التي أطلقها المجلس الوطني الانتقالي، باعتماد الشريعة مصدراً رئيسياً للتشريع، أقرب إلى التدخل والتأثير في خيارات الناخبين. صحيح أن مسألة الشريعة ليست موضع خلاف، إذا لا تعدد للأديان والطوائف في ليبيا، لكن الإصرار على حسمها شكّل محاولة لتوجيه المجتمع عشية الاقتراع. يضاف إلى ذلك أن مسألة الشريعة يفترض أن تبتُّها هيئة إعداد الدستور، وكان الأفضل تركها لها حتى لو كان الأمر بديهياً. لا شك أن صعود الإسلاميين بات ظاهرة مؤكدة، ويعزى ذلك إلى أنهم، خلافاً لليبراليين، خرجوا من مرحلة الطغيان والاضطهاد متماسكين ومنظمين. فالليبراليون الذين غلَّبوا المسالمة والتعايش مع النظام القائم، أو فضلوا المنفى القسري، وجدوا أنفسهم مصنّفين كأنهم "فلول" النظام السابق، في حين أن الإسلاميين تقلبوا بين مواجهة ومهادنة للنظام وكانوا الأكثر استعداداً لمقاتلته عندما حانت اللحظة، لكنهم لم يكونوا وحدهم في القتال لأن غالبية من حملوا السلاح تحركت بدافع الذود عن الأهل والمدينة، وكذلك انطلاقاً من العصبية القبلية. غير أن تجربتي مصر وتونس برهنتا حتى الآن على أن الإسلاميين في سدة المسؤولية مدعوون إلى التخفف من كثير من الحمولات الأيديولوجية ليتمكنوا من قيادة الحكم والسلطات تشريعياً وتنفيذياً، إذ تأكد لهم، بعد اجتياز محطة صندوق الاقتراع، أن مواجهة الواقع تتطلب أكثر من خطب الشحن الديني. كان النظام يعتقد، ويدّعي، أنه صانع الاستقرار وراعيه، ثم اكتشف والعالم أنه كان يجلس فوق بركان ما لبث أن ثار وتطايرت حممه في كل اتجاه تاركاً وضعاً فوضوياً. أياً ما تكون نتائج الانتخابات، فهي نجحت على الأرجح في تغليب إرادة وطنية بالانتظام، والخروج من الثورة إلى الدولة. لا يمكن أن يكون الليبيون راضين عن استبدال أمن الميليشيات بأمن كتائب القذافي، أو عن استبدال "جمهورية الخوف" و"جماهيرية القمع". هذا بلد يطمح لأن يكون طبيعياً، فالأحرى بقادته الجدد أن يعثروا على الرابطة الوطنية التي تجمع كل أبناء الشعب، أما إذا انشغلوا بمصالحهم فسيؤكدون المخاوف من تقسيم ليبيا وتقطيعها. وأياً تكن الحكومة المقبلة وتركيبة المجلس المنتخب، فإن أولى المهمات المطلوبة توحيد الأمن وعدم تجاهل واجب المصالحة الوطنية، وإلا فإن المخاطر والنزاعات المسلحة ستبقى داهمة.