يبدو أن اللحظة الراهنة في فرنسا بما تتسم به من قدوم رئيس جديد إلى السلطة، وأغلبية برلمانية مساندة، بالإضافة إلى المشاكل المتعددة المتمثلة في الإكراهات المالية، والتحولات الاستراتيجية، وفتح حوار حول مستقبل السلاح النووي الفرنسي، ناهيك عن النقاش بشأن صناعة الدفاع الفرنسية.. كل ذلك دفع البعض في فرنسا إلى المطالبة بإعادة مراجعة سياسة الدفاع وتضمين ذلك في "كتاب أبيض" يحدد الأولويات القادمة ويضع أهدافاً جديدة تتسق أولاً مع معطيات المرحلة الجديدة، وثانياً تستجيب لمتطلبات المستقبل والدور المفترض لفرنسا في صياغته. والحقيقة أن تمرين وضع "كتب بيضاء" تُبلور السياسات العامة للدول والتوجهات الاستراتيجية الكبرى في المستقبل ليس جديداً، بل هناك بلدان تضع كتباً بيضاء في شتى المجالات كل سنة باعتبارها دليلاً يصاحب السياسيين ويوفر لهم تحليلاً ورؤية استراتيجية لما ستقدم عليه الدولة خلال السنوات المقبلة ليصبح بذلك بمثابة المرشد الذي يرافق خطوات الساسة، ويوجه مسيرتهم بما يتفق مع الخطوط العريضة التي تم التوافق عليها والمصلحة التي استقر عليها الخبراء وأصحاب الرأي. وقد لجأت فرنسا في تاريخ الجمهورية الخامسة إلى وضع ثلاثة كتب بيضاء تعبر عن قراءتها للحظة التاريخية وموقع فرنسا منها، وكان أول كتاب أبيض يُنشر في فرنسا خلال 1972 تحت الرعاية العليا لوزير الدفاع في تلك الفترة، "ميشيل ديبري"، هذا الكتاب لاقى نجاحاً منقطع النظير ما يفسر استمرار أثره في الذاكرة الوطنية حتى اليوم. ففي هذا الوثيقة المهمة التي أشرف على صياغتها وزير الدفاع تم تحديد ولأول مرة الاستراتيجية النووية الفرنسية، وتم وضع أسسها وملامحها العامة. هذه الاستراتيجية ترجع إلى أيام "ديجول" الذي أراد من خلالها إدخال فرنسا إلى نادي الكبار بامتلاكها سلاح الردع النووي وتحقيق الاستقلالية الدفاعية للجمهورية الخامسة، تفادياً لفشل عام 1956 عندما حاولت فرنسا اجتياح قناة السويس المصرية فتعثرت بشكل كبير رغم مشاركة بريطانيا وإسرائيل إلى جانبها وتجرعت مهانة كبرى. لذا جاء كتاب عام 1972 لتبرير الاستراتيجية الفرنسية في المجال النووي والدفاع عنها فكرياً واستراتيجياً باعتبارها السياسة الأمثل لحماية المصالح الحيوية للدولة الفرنسية، كما تضمن الكتاب الأول تفسيراً جغرافياً وسياسياً للمصالح الفرنسية سواء في القارة الأوروبية، أو خارجها مبرراً بذلك التدخلات العسكرية اللاحقة في أفريقيا وغيرها بعدما أصبحت جزءاً من المصلحة الفرنسية العليا. وكان كتاب 1971 الخطوة التي رسخت مبادئ "ديجول" في السياسة الخارجية حتى بعد فترة طويلة من مغادرته للساحة السياسية، وقد شهد الكتاب الأول نجاحاً باهراً، لدرجة أنه لا أحد فكر لاحقاً في صياغة كتاب ثان يعيد مراجعة التوجهات الاستراتيجية الكبرى لفرنسا، بل حتى الرئيس الاشتراكي "فرانسوا ميتران" بشعبيته الطاغية وقدراته الفكرية أحجم عن الانخراط في مشروع مشابه. لكن "ميتران" بفكره السياسي الحاد والمتطور رفض الركون إلى سياسة "ديجول" التقليدية وأدلى بتصريحه الشهير الذي قال فيه "الردع هو أنا"، كما واصل تأملاته في عالم السياسة من خلال مؤلفه الصادر في عام 1986 بعنوان "تأملات في السياسة الخارجية"، إلا أنه مع ذلك لم يفكر في إصدار كتاب أبيض ثان يعيد فيه تقييم التجرية الفرنسية سواء في الدفاع، أو غيره. فجاء الكتاب الثاني في عام 1994 بدواع مختلفة، إذ لم يكن الهدف كما جرت العادة تقييم السياسة الدفاعية للجمهورية الخامسة، بل أراد الوزير الأول، "إدوارد بالادير"، الذي أطلق المشروع فرض نفسه سياسياً على الساحة الفرنسية بإعطاء الانطباع للفرنسيين أنه سيد السياسة الدفاعية في البلد، وكانت عين "بالادير" موجهة بالأساس إلى الانتخابات الرئاسية للعام 1995، بحيث كان الهدف بعث رسالة إلى رئيس الجمهورية وقتها، "ميتران"، وإلى مرشحه المفضل من كتلة اليمين، "جاك شيراك"، محاولاً طرح نفسه كخصم سياسي ينافس على الرئاسة، بيد أن معركة "بالادير" انتهت إلى الفشل بعدما أحكم "ميتران" قبضته على شؤون الدفاع قاطعاً الطريق على وزيره الأول المتمرد، كما سعى "شيراك" بتحالف مع "ميتران" إلى فرض أجندته ليتوج في النهاية رئيساً لفرنسا. أما الكتاب الأبيض الثالث في تاريخ الجمهورية الخامسة فقد رأى النور في 2008 بقرار اتخذه نيكولا ساركوزي عام 2007، وقد تم لهذا الغرض تشكيل لجنة لصياغة مضامين الكتاب وعُقدت جلسات استماع متعددة للخروج بمفاهيم عامة، غير أن مشكلة كتاب ساركوزي كانت أن الهدف منه لم يكن صياغة استراتيجية جديدة في الشؤون الدفاعية، أو الاقتصادية الفرنسية، بل كان مجرد تلخيص لما هو موجود أصلاً، لذا افتقد الكتاب لأي عمق فكري، أو تحليلي ليكتفي بالمصادقة على سياسات كان ساركوزي قد حسم رأيه فيها، ولم يأتِ الكتاب بجديد، ليبقى السؤال اليوم حول الجهد الجديد المرتقب إطلاقه لصياغة كتاب أبيض رابع. وفي هذا السياق تُثار العديد من الأسئلة المهمة: فهل نحن مقبلون على كتاب الغرض منه تبرير السياسات المقبلة مثل خفض الإنفاق لتمريرها بلغة أكاديمية وفكرية منمقة؟ أم أننا سنستفيد من هذه اللحظة المهمة لصياغة كتاب نعيد فيه النظر في اختياراتنا الاستراتيجية الكبرى ونقف موقف تحليل يتسم بالعمق والرصانة؟ وهل سنفتح نقاشاً حقيقياً حول الدور الفرنسي في الساحة الدولية وحول جدوى الأداة العسكرية؟ وهل سنعيد مساءلة عقيدة الردع الفرنسية ومشاركتنا في حلف شمال الأطلسي في ظل الفشل الذريع للتجربة الأفغانية؟ إذا كانت هذه الأسئلة متضمنة فعلاً في الكتاب الأبيض، فالأمر يستحق أخذ ما يكفي من الوقت للإجابة عنها واستشارة جميع فعاليات المجتمع الفرنسي دون استثناء، وهو لذلك يتعين عليه مقاربة الأسئلة بعمق دون التحرج من التطرق للمحظورات، فكتاب يدعي الإجابة على هذه الأسئلة المقعدة والاستراتيجية عليه ألا يستعجل الخروج إلى العلن ونشر نتائجه بسرعة.