تمثل الانتفاضة السورية الراهنة ضد نظام الحكم القائم حالة فريدة ضمن ما يعرف بـ"الربيع العربي"، فالانتفاضة بدأت نصف العام المتبقي كي تكمل من عمرها سنتين دون أن تحقق أياً من أهدافها حتى الآن، وحتى حل "نصف ثورة" الذي طُبق في اليمن يبدو حتى الآن بعيد المنال بالنسبة للوضع في سوريا. واصل الثائرون انتفاضتهم طيلة عام ونصف العام دون تخلٍ عن أي من أهدافها، وثابر النظام السوري على اعتبارهم مجموعة من الإرهابيين ينبغي اجتثاثها بكل الوسائل الوحشية، وتقوى في هذا الصدد بجيش تغلب على تكوينه الطائفة الحاكمة، ومنظومة أمنية متشعبة، وبعض الشرائح الاجتماعية ذات المصلحة في بقاء النظام، بالإضافة إلى نخب عربية سياسية وفكرية رأت فيما يجري مؤامرة على سوريا "الممانعة" الداعمة للمقاومة، وقوى إقليمية حليفة تتمثل أساساً في إيران، وكذلك قوتان دوليتان لا يُستهان بهما هما روسيا والصين. لم تفلح كل جهود الثوار في سوريا أو المواقف العربية الداعمة بشدة للثورة السورية، وكذلك الموقف التركي، وأخيراً وليس آخراً كافة القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ومنظمة الأمم المتحدة وعلى رأسها مجلس الأمن- لم يفلح هذا كله في زحزحة النظام السوري قيد أنملة عن مواقفه. والواقع أن العجز بدا واضحاً في كافة المحاولات العربية والدولية والأممية لإيجاد حل للمأساة السورية، كما أوضحت في المقال السابق، خاصة وأن التدخل العسكري مستبعد إما لأسباب مبدئية تتبدى على سبيل المثال في عديد من المواقف العربية التي لا تريد تكرار التجربة الليبية، وإما لأن من يقدرون على تبعات هذا التدخل يمرون بظروف سياسية تجعله مغامرة غير مأمونة العواقب. من هنا ركز كثيرون – وكاتب هذه السطور منهم- على أن حل المأساة السورية هو أساساً بيد الشعب السوري الذي سيتعين عليه للأسف أن يدفع المزيد من دماء أبنائه ثمناً فادحاً للتخلص من نظامه، وعندما تصل إرادة التغيير إلى كافة قطاعات هذا الشعب، فلن تكون هناك قوة على الأرض قادرة على منع انتصاره وانتزاعه حقوقه التي اغتصبت منه منذ عقود. غير أنني اليوم للأسف أضيف لهذه الصورة ما يزيدها قتامة، وبعض هذه الإضافة موثق وأكيد، وبعضها يعتمد على تقارير لا يستطيع المرء أن يتأكد من دقتها – أو حتى صحتها- وإنْ كان لا يمكنه أن يسقطها من اعتباره. أما الجانب الأكيد الموثق لهذه القتامة فهو تشرذم المعارضة السورية، ويبدو الآن واضحاً أن النظم الديكتاتورية التي سقطت في غمار "الربيع العربي"، أو هي بسبيلها إلى السقوط قد نجحت بامتياز في منع تبلور معارضة قوية ذات قيادة واضحة تستطيع أن تقود الشعب نحو تحقيق أهدافه، ولهذا رأينا أن الثورة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا كانت عبارة عن هبة شعبية عارمة ربما تكون هناك نخبة ما قد فجرتها، لكنها بالتأكيد عجزت عن قيادتها بعد ذلك، بل إن التشرذم قد أصاب فصائل الثورة على نحو صارخ ومحبط، الأمر الذي سبب انحرافاً واضحاً للثورات عن أهدافها بعد أن استقرت السلطة –ولو المؤقتة- في أيدي من لا ينتمون إلى معسكر الثورة حتى وإن تعاطفوا معها أو أيدوها. تبدو هذه المسألة واضحة كل الوضوح في الحالة السورية، ولو اقتصرنا في التدليل على ذلك على أحدث المؤشرات دون أن نبدأ القصة من أولها على نحو لا يسمح به هذا المكان فسوف نجد أن مؤتمر المعارضة السورية الذي عقد بالقاهرة يومي الثاني والثالث من يوليو الجاري برعاية جامعة الدول العربية قد انتهى بالموافقة على إقرار وثيقتين هما العهد الوطني والمرحلة الانتقالية، وهذا جيد بغض النظر عن فاعليته. لكن الخلافات داخل المؤتمر كانت شديدة الوضوح من بدايته إلى نهايته. احتدم الخلاف أولاً حتى اللحظات الأخيرة حول تشكيل لجنة متابعة لتنفيذ الوثيقتين اللتين أقرهما المؤتمر. رفض المجلس الوطني السوري تكوين مثل هذه اللجنة، واعتبرها التفافاً عليه، وبينما رأى البعض أن صلاحياتها يجب أن تكون محدودة فإن البعض الآخر طالب بصلاحيات واسعة للجنة، واحتج فريق على إمكان تحويلها إلى لجنة تنفيذية، اختلف المؤتمر أيضاً حول الموقف من خطة عنان، ذلك أن البعض (الحراك الثوري) رأى أنها لم تعد صالحة، بينما اعتبرت غالبية المؤتمر أن الخلل ليس في الخطة وإنما في غياب آليات التنفيذ. كذلك حدثت خلافات حول التدخل العسكري. صحيح أن أحداً لم يطالب بذلك، لكن الاتفاق جرى على عدم النص في البيان الختامي للمؤتمر على رفض التدخل العسكري أو إباحته، وإنما تُرك الباب مفتوحاً على أساس أنه من حق الشعب السوري طلب حماية دولية. وبالإضافة إلى كل ما سبق أراد ممثلو القوى الكردية ذكر بعض التفاصيل الخاصة بشكل الدولة، وفصل الدين عن الدولة، وشكل اللامركزية في نصوص دستور ما بعد الأسد، وغادروا قاعة المؤتمر محتجين إلى أن تم إقناعهم بالعودة، ناهيك عن التقارير التي تحدثت عن أن التلاسن بين المختلفين قد وصل إلى حد الاشتباك بالأيدي. نأتي بعد ذلك إلى الانسحابات والمقاطعات، فقد أعلنت الهيئة العامة للثورة السورية انسحابها من المؤتمر، لكن اللافت أن ممثلة الهيئة في المؤتمر واصلت مشاركتها (!) بما في ذلك مشاركتها في لجنة الصياغة، وأدلت بتصريحات اعتبرت فيها بيان الانسحاب صادراً عن أفراد، وأكدت أن المؤتمر منعقد في أجواء إيجابية، وكان بيان الهيئة قد ذكر أن الحديث عن وحدة المعارضة مجرد كلام، ويعني هذا أن الانقسام ليس بين فصائل المعارضة فحسب وإنما داخل الفصيل الواحد. أما "الجيش الوطني الحر" فقد كان قد أعلن مقاطعته المؤتمر ووصفه بأنه "مؤامرة"، وأعلن الحرب عليه "باعتباره تنفيذاً لأجندة روسية-إيرانية بتعاون أمني سوري"، لأنه "لا يلبي تطلعات الثورة السورية بل يحتال عليها"، إلى جانب أن "المؤتمر يهدف إلى إنقاذ النظام السوري وتغيير الأسد" الأمر الذي لا يتطابق وتطلعات "الثوار السوريين المطالبين بإسقاط النظام وكامل رموزه". ومن الصحيح أن حركات التحرر الوطني والحركات الثورية تشهد دائماً نوعاً من التناقض بين "الداخل" و"الخارج"، ولكن التناقض هنا يبدو رئيسياً. أما التقارير التي تضيف إلى هذه الصورة المظلمة، فهي تتحدث عن غياب القيادة الموحدة للجيش الحر، وتشرذم فصائله، وكذلك تسمية بعض هذه الفصائل نفسها بأسماء حكام عرب وسياسيين مناوئين لسوريا مثل كمال جنبلاط أو رفيق الحريري، وأن ثمة أعمالاً لا علاقة لها بالثورة قد يصل بها الأمر إلى أن تصنف كأعمال معادية لها ترتكب من قبل بعض هذه الفصائل كمهاجمة الدور ونهبها، وذلك كله بالإضافة إلى غياب الرؤية الاستراتيجية. يعني كل ما سبق للأسف أن انتصار الثورة السورية الذي ينتظره كل مخلص لحريات الشعوب وحقوقها قد يكون بداية لأوضاع مأساوية فيها، وهو سيناريو ليس بعيداً عما حدث في بعض تجارب "الربيع العربي" الأخرى. فما العمل؟ إن جهداً دؤوباً من أجل توحيد المعارضة أو على الأقل القسم الأكبر والأكثر فعالية منها يجب أن يكون مهمة أولى أمام الثوار في سوريا وأنصارهم، إذا كان لثورتهم أن تنتصر، وإذا كان لوطنهم أن يبقى كريماً عزيزاً بعد هذا الانتصار.