اجتماع "القمة" الأوروبي العشرين، الذي عقد الخميس قبل الماضي في بروكسل، شكل هزيمة رمزية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي وافقت على أن صندوق الإنقاذ المالي الدائم لأوروبا يمكنه بشكل مباشر إعادة رسملة بعض البنوك المضطربة في منطقة "اليورو"، وذلك بعد أسابيع من المقاومة المستميتة لتقديم تنازلات من هذا القبيل لمن يُنظر إليهم في ألمانيا باعتبارهم "الجنوبيين" المبذرين وغير المسؤولين كـ"اليونانيين والإيطاليين والإسبان والبرتغاليين – الذين يحمَّلون مسؤولية أزمة الديون الأوروبية (بقليل من المساعدة من "جولدمان ساكس"). كما وافقت، في الحالة اليونانية، على إنشاء صندوق للنمو. وبفضل الحملة المحمومة من أجل الإصلاح الكينيزي (نسبة إلى نظرية عالم الاقتصاد البريطاني جون كينيز التي تدعو إلى تدخل الدولة في الاقتصاد) التي خاضها طيلة الأزمة بول كروجمان كاتب العمود، والاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، فإن الأميركيين قد يميلون أكثر إلى النظر إلى النقاش الحالي من زاوية "مدرسة النقدية" مقابل "النظرية الكينيزية". والحال أن جماعة "حزب الشاي" الجمهوريين، في الولايات المتحدة، و"المحافظين" الاقتصاديين العتيقين من دعاة تقليص حجم الحكومة والذين يعارضون إدارة أوباما ويشكلون كتائب ألد أعداء الرئيس، ليسوا من دعاة نظرية النقدية. ذلك أن "المحافظين الجمهوريين" العاديين (إذا استثنينا الواحد في المئة من أصحاب الشركات النخبويين)، يخافون من الدين الوطني، ومن ديونهم الطبية أو ديون بطاقات ائتمانهم، ومن ديون القروض الجامعية لأطفالهم، التي ترتبط في أذهانهم ببرامج الرعاية الاجتماعية للحكومة الليبرالية، إضافة إلى ما يعتقدون خطأ أنها ديون ضخمة على نحو خطير وكارثي للضمان الاجتماعي وبرنامج "ميدي-كير". أما في أوروبا، فإن النقاش مختلف، حيث هناك مواجهة بين الشمال والجنوب حول إدارة الميزانية، والإنفاق الوطني الحذر، وفوائد الأسواق الدولية التي تحمل الدين الأوروبي. وقد انتهى الاجتماع الذي عقد الخميس ما قبل الأخير باتفاق حول دعم المديونية الإسبانية والإيطالية الهشة، ما يسمح لبعض صناديق الإنقاذ في منطقة "اليورو" بالقيام على نحو مباشر بإعادة رسملة بعض البنوك الإسبانية وشراء سندات سيادية إيطالية. وإضافة إلى ذلك، تم إدخال نظام جديد للإشراف على البنوك من خلال البنك المركزي الأوروبي، والذي اتُّخذ كخطوة نحو مشروع اتحاد بنكي في منطقة "اليورو"، كما يمكن أن تكون ثمة أيضاً ضريبة على الصفقات المالية - بغض النظر عن رأي بريطانيا في هذا الموضوع - تهاجم الخاصرة اللينة للمركز المالي والتجاري للندن (وربما "وول ستريت" أيضاً). غير أنه ليس ثمة اليوم أي تعاطف مع المصرفيين بالنظر إلى ممارساتهم الجشعة. هذه التدابير قصيرة المدى أسعدت كثيراً الأسواق الدولية، ولكن البرلمان الألماني كان غاضباً بسبب ما بدا باباً مفتوحاً أمام أموال دافعي الضرائب الألمان حتى تتدفق نحو خزائن جيرانهم غير المسؤولين مالياً. ففي ألمانيا، تم تناول القضية من البداية بأسلوب صحف الفضائح، حيث تم تقديم ألمانيا المقتصدة والرشيدة، وبعض الحلفاء الأوروبيين الشماليين البروتستانت الذين يتمتعون بصحة اقتصادية جيدة كـ" الفنلنديين والاسكندنافيين" على أنهم معرضون للاستغلال من قبل دول مبذرة. ولكن الشعور المتبادل، الذي ينتشر بحماس مماثل، هو أنه وبعد أن دمرت أوروبا مرتين من قبل لأسباب أنانية، وحاولت ولكنها فشلت في غزوها في 1914- 1918 و1940- 1944 ، فإن محاولة ثالثة من هذا القبيل باتت اليوم واضحة وجلية. وقد قام اليونانيون بشكل خاص بتذكير كل من هو مستعد للاستماع بأن اليونان لم تتلق أبداً تعويضات كافية عن الحرب من ألمانيا، وأن الاحتياطات الوطنية من الذهب التي نُهبت لم تتم إعادتها أبداً. وبذلك، يجوز القول إنها كانت سنة منيرة ومفيدة في منطقة اليورو. دفاع "ميركل" الشرس عن أموال ألمانيا كانت تقف وراءه دوافع سياسية داخلية، إضافة إلى إرثها العائلي كبنت قس حكيم وحذر. فائتلافها المحافظ مع "الديمقراطيين الأحرار" يوجد في حالة غير جيدة، وحزبها "الديمقراطيون المسيحيون" لديه نظرة غير واضحة للانتخابات الوطنية العام القادم. غير أن موقفها العام من مشكلة الديون الدولية كان غير متوقع من بداية الأزمة، وغير واعد سياسياً في تقديري. إنه المطالبة بـ"مزيد من أوروبا" سياسياً، قبل قبول "مزيد من أوروبا" اقتصادياً. ولكن ومثلما كتبت "باربارا سبينيلي" من صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية مؤخراً، فإن ما تريده الأسواق هو برنامج لتبني هيئة ضريبية أوروبية، وميزانية أوروبية مشتركة، و"برلمان أوروبي قوي"، وبنك مركزي قوي، وسياسة خارجية موحدة. ولكن المستشارة "ميركل" تريد "اتحاداً سياسياً أوروبياً". وهذا أمر غير واقعي. إن التعاون الوثيق بخصوص الاقتصاد والميزانية شيء، ولكن أن تقوم دول سيادية تاريخية وامبريالية عظمى مثل فرنسا وإسبانيا وبريطانيا بالتنازل عن سلطتها السيادية لبيروقراطي تنفيذي أوروبي وبرلمان أوروبي "قوي" هو أمر لا يمكن تصوره. وقد تقوم ألمانيا بذلك –بعد كل ما حدث خلال القرن الماضي- ولكنني أشك حتى في هذا الاحتمال، ولاسيما بعد أن رأينا مؤخراً ما تعنيه سياسة خارجية أوروبية مشتركة: نوايا حسنة أو تصديق مرتبك على ما تقوم به الحكومات بشكل فردي بمبادرة خاصة منها. إن أوروبا تمثل وينبغي أن تظل تحالفاً وثيقاً على نحو متزايد بين قوى عظمى. أما أن تتخلى هذه القوى عن سياداتها الفردية، فيبدو لي ذلك أمراً مستحيلاً. ويليام فاف محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"