جاء مؤتمر باريس الذي شارك فيه "أصدقاء سوريا" يوم الجمعة الماضي، ليُحدث وجوماً على وجوه الكثير من الساسة والباحثين الإستراتيجيين والمثقفين السياسيين وغيرهم، في سوريا والعالم العربي عموماً، فلقد لاحظ هؤلاء أن الموقف السوري الذي أفصح عن نفسه حيال خروج شباب وأطفال في درعا قبل خمسة عشر شهراً. وبالتحديد منذ إطلاق الرصاصة الأولى على المتظاهرين، لم يتغير في مساره، لقد أخذ خطاً بيانياً متصاعداً عبر الانتقال من حالة الرصاص إلى حالة السلاح الثقيل أرضاً وجواً، دون التفكير لحظة واحدة في اللجوء إلى طريق أو طرق أخرى، تقدم للبلاد والعباد خطوات إصلاحية حقيقية بمشاركة ندية فاعلة من أطراف البلد جميعاً. لقد فرّط المسؤولون العسكريون والأمنيون بسوريا بفرص كان عليهم أن يقتنصوها، فيجنبوا أنفسهم والناس ما لا يُحمد عقباه، وإذا تعقبنا المسألة في سياقها التاريخي، سنجد أن ما خرج الشباب من أجله في شهر مارس من عام 2011 تمثل في مطالب لا تخرج عن دائرة إصلاح اقتصادي وسياسي وتعليمي ثقافي خصوصاً، ومن ثم في تحقيق الغلبة على الاستبداد والفساد والإفساد بحدود كافية، كان ذلك، لو حدث، فضيلة عظمى، بعكس ذلك، أخذ النظام الأمني سبيلاً آخر: لقد رفض الإقرار بضرورة الإصلاح (الحقيقي)، فوقع في خطأ وخطر كبيرين، ومن أجل إقناع الداخل (والخارج خصوصاً)، لجأ مستشاروه إلى تلفيق أسباب زائفة لخروج الشباب إلى الشارع، فكان هذا باعتقادهم سبباً كافياً لتأليب الداخل والخارج عليهم، بمثابتهم متآمرين وضالعين في مؤامرة كونية يُراد منها تدمير سوريا، ومن هنا جاء الحديث عن "مجموعات مسلحة" و"سلفيين ومندسين... إلخ". كان من مقتضيات الحكمة والعقلانية أن يجري التدقيق في الأحداث منذ بداياتها، مع الإشارة إلى محاولات للإصلاح الكثيرة ظهرت وراحت تُعلن عن ضرورتها في الاقتصاد وفي كل الحقول الأخرى قبل مجيء بشار الأسد، أي في أثناء حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، ولكن أجهزة القمع في "الدولة الأمنية" انتصرت على الشعب، بل إن مجيء بشار إلى الحكم ارتبط بتنفيذ مشروع وطني في الإصلاح والتحديث وإعادة النظر في توزيع الثروة، كما في القيام بإصلاح في بنية الحكم وفتح أبواب إعادة البناء السياسي في ضوء مبادئ الديموقراطية والمجتمع الوطني المدني. لم يلتقط نظام الحكم السوري منذ البدايات أية ضرورة لإصلاح حقيقي، فاستبدل ذلك بمواجهة جموع الشباب الطامح إلى الحرية والكرامة والعمل، فزاد من أعداد المعتقلين والقتلى والمهجرين، بدلاً من تفهم عميق وضروري لواجب القيام بلحظة تأمل عقلاني وديموقراطي في ذلك، وبهذا زاد في إشعال النار. وإمعاناً في التنكر لمطالب الشعب، قامت السلطة بخطوات قُدمت للناس على أنها تحقيق للإصلاح، مثل الدستور ومجلس الشعب، ولم يدرك أصحاب تلك الخطوات أن النظر إليها بمثابتها نماذج إصلاحية، كان يجب أن يدقق في مصداقيتها، خصوصاً وأنها جاءت بوقت صعب إشكالي: كان يجب أن يُدرك أن تحقيق إصلاح فعلي في الحقلين المذكورين وفي غيرهما (وهو كثير) كان يشترط أن يحدث عن طريق "لجنة إصلاح" أطرافها تتحدر من كل أطراف الشعب السوري، فهذه هي التي تؤسس سياسياً تاريخياً للضرورة التاريخية للقيام بمثل هذا العمل، تشكيلاً، وتحديداً لموضوعات البحث، واستنباطاً للنتائج المرجوة، وذلك يداً بيد مع تأسيس إعلام وطني ديموقراطي يعم ذلك ويطرح لحوار شعبي صادق، لم ينجز شيئاً من ذلك لا عموماً ولا خصوصاً، بالمعنى الإصلاحي التغييري الدقيق. وعلينا أن نعلم أن المهمات العظمى، التي تشترط القيام بالإصلاح المعني، لم يتحقق منها شيء فعلي، أما البدء فقد كان شرط الشروط فيه ممثلاً في سحب كل مظاهر العنف والسلاح من الشارع إلى الثكنة، وفي الوقت نفسه كان يتوجب إخلاء السجون السياسية من ساكنيها، ومحاسبة من أطلق الرصاص وقصف الأحياء والناس، وفي هذا وذاك وذلك، كان ينبغي القيام بالتأسيس لمؤتمر وطني من كل الأطياف السياسية والمدنية تُناط به مهمات إنجاز خطوات المرحلة الانتقالية المحتملة. لم يحدث شيء من ذلك، فبدلاً من هذا، هيمن الحل الأمني العسكري، فزلزل الداخل السوري، وأنتج ظروفاً لاختراق الداخل من الخارج، فاختلط الحابل بالنابل، وصار الناس يبحثون عن حلول هنا وهناك حتى في باريس.