يُقال إن أحد السلف كان يؤكد لأصحابه وتلاميذه أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة يُقام ليلها ويصام نهارها، لأن الفكر والتأمل والغوص عميقاً في سر الحياة والغاية من وجودنا نحن البشر، والنظر في انتظام هذا الكون وبديع صنعه وإحكامه يعني غذاء للعقل ونشأة أخرى للروح. وإعادة تشكيل للنفوس اللاهثة المتساءلة التي تكدح في هذا العالم وتسعى لأن تكشف ماوراء السجف، ومايقبع خلف حدود المعرفة البشرية المتاحة. ولهذا كان الإمام ابن تيمية يقول لأصحابه "إنني أجدد إسلامي كل يوم". ولهذا كانت إحدى أعظم المدارس الكلامية عند المسلمين تؤكد أن على الإنسان أولاً أن ينظر ويتفكر ثم يعقد إيمانه، كما كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. هل يمكن أن تحدث معرفتنا وجود ملايين الكواكب المشابهة لأرضنا في مجرتنا الأم أي وقفة تأمل، أو تفكر ساعة من الزمن تفوق دهشتنا من وجود قبائل بدائية لاتزال حتى اليوم تجهل وجود السيارة والطائرة؟ هل يمكن لإعلان العلماء في معهد سيرن للأبحاث الأربعاء الماضي توصلهم إلى اكتشاف الجسيم الذي شكل المادة الأساسية للكون، ومنحها كتلتها وتماسكها عقب الانفجار الكبير، أن يحدث لدينا من الجدل والتساؤل والتأمل أكثر من انتخاب رئيس جديد لمصر، أو انفجار في جنوب اليمن، أو تلاسن بين سياسيين حول مصير الحكم في سوريا؟ هل يمكن لمعرفتنا أن المادة السوداء التي تسارع في فصل المجرات بعضها عن بعض بسرعة فائقة إلى أمد غير محدود أن تورث في أعماقنا من الرهبة مايفوق رعشة الفرح بهدف يسدده نجم كرة قدم، أو يحدث لنا إجلالاً للكون البديع يفوق مانشعر به حين نقابل زعيماً سياسياً أو معلماً روحياً، أو يشعرنا بالتواضع والتفاهة أكثر من صفعات نتلقاها أمام الملأ في شجار على قارعة الطريق؟ من أجل هذا المغزى العظيم كانت منزلة العلماء أرفع بمراتب من منازل العباد والنساك، الذين يقنعون بالوقوف على الضفاف، ولا يخوضون مغامرة اكتشاف المحيط الخضم، وبحر الغموض الذي يلف أرجاء هذا الكون، ويكشف لنا أنه حقاً "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً". لقد مكنتنا هذه الكشوفات خلال عقود قليلة من الزمن من معرفة مالم تكن الإنسانية تعرف منه آلاف السنين إلا نزراً بسيطاً كزبد على ضفاف المحيط يتجمع تحت قدم طفل مندهش. لهذا رأينا العالم الإسكتلندي "بيتر هيجز"، الذي كان أول من أكد وجود الجسيم الأساسي في عام 1964 وهو يمسح دموعه الأسبوع الماضي، بعدما تأكدت فرضيته، بعد قرابة خمسين عاماً، والمئات من العلماء يقدمون عرضاً لإثباتها بنسبة 999.99. لقد استحق العلماء أن يكافؤوا على فضولهم وسعيهم الدؤوب نحو معرفة أسرار هذا الكون الذي لانعرف منه في الظاهر إلا مايشكل 4 في المئة. ماهو أكثر إدهاشاً أن الحقائق العلمية والقوانين الفيزيائية والنظريات، التي نالت الاعتراف والاحترام من المجامع العلمية وغيرت حياتنا في القرنين الأخيرين، لاتزيد خلاصتها عن عشرات الصفحات، وأحياناً لاتتجاوز بضع صفحات، في إزاء آلاف وعشرات الألوف من اللغو والقيل والقال والهراء الذي تضخه المطابع كل يوم، ومالفظته الإنسانية منذ سبعة آلاف عام. أليس غريباً أن التعاليم الكبرى والوصايا التي شكلت ثقافات العالم وكانت البنية التحتية للقيم والأخلاق التي قامت عليها الحضارات لاتتجاوز بضع صفحات، أو ربما عشرات الكلمات! لهذا قيل خير الكلام ماقل ودل.