ليس مهماً من سيفوز بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية في الانتخابات الليبية، الأهم هو أن ليبيا تؤسس الآن لقيام الجمهورية الأولى في تاريخ ما بعد الاستقلال. لأول مرة يمارس الليبيون حريتهم في اختيار من سيقود العملية السياسية في بلادهم، ولأول مرة تصبح ليبيا شعبية وديموقراطية بعيداً عن شعارات وتفاهات العهد البائد الذي حول البلاد إلى مزرعة عائلية. الانتخابات هذه ثم ما سيليها من انتخابات برلمانية كاملة هي أول المشوار وليس نهايته، وهي تجسد لحظة تاريخية عظيمة صنعها الشعب الليبي بالتضحيات والدماء والثورة على نظام فاسد مُستبد أضاع من عمر الشعب وليبيا أربعة عقود كاملة وأهدر ثروات لا تُتصور. الآن يبدأ انتقال ليبيا من عصر الشرعيات المزيفة، بما فيها "الشرعية الثورية"، إلى عصر الشرعية الدستورية. ثورة أي شعب على الطغيان والاستبداد والفساد هي حالة نبيلة تجسد الإرادة الجماعية في الانتصار للحرية والتخلص من الديكتاتورية. لكن الثورة، أي ثورة، هي حالة مؤقتة وليست دائمة، وما يتلوها هو دوماً المسار الصعب لأنه يُعنى بالبناء والتأسيس. الثورة الناجحة هي التي تنتهي إلى بناء شرعية جديدة أساسها المتين هو الشرعية الدستورية. الثورة الفاشلة هي التي تتمترس بـ "الشرعية الثورية"، وتعمل على تحويل الحالة الطارئة والظرفية إلى حالة دائمة. وعبر ذلك وبسببه تتحول إلى نظام مُستبد يعيد تأسيس النظام الذي قامت ضده. هذا درس التاريخ الحديث في عهد ما بعد الكولونيالية في العالم الثالث، والذي يشير إلى قائمة طويلة من التجارب الثورية التي بدت زاهية ومبشرة في أول عهودها، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وفي بلداننا العربية، ثم تحولت إلى أنظمة ديكتاتورية تجتر الشعارات الثورية وتخنق الناس. الثورة الليبية الشجاعة ضد نظام القذافي تنتقل الآن، ويجب أن تنتقل إلى حالة بناء الدولة وشرعية الثوار يجب أن تنتهي مع الانتخابات وتذوب في الشرعية الدستورية قيد التأسيس. لن يكون ميلاد الجمهورية الليبية الأولى بالأمر اليسير ذلك أن الدمار الذي تركه القذافي وحكمه عميق ومتسع، لكنه ميلاد سيتم رغم كل ذلك لاتساقه مع وجهة التاريخ وتأسسه على الحرية وليس الاستبداد. تركة العهد القذافي المدمر والخراب البنيوي الذي انتجه يحتاج إلى مثابرة وجهد كبير لكنسه بالكامل. أبرز معالم ذلك الخراب هو تعميق القبلية والجهوية وتسعير الخلافات (طبقاً لسياسة فرق تسد) بهدف خلق شروط دائمة لبقاء الحكم. عوض أن تعمل أنظمة ما بعد الاستقلال في ليبيا، وفي كل البلدان العربية، على بناء دولة القانون والمواطنة والمساواة والتهميش التدريجي والممنهج للولاءات القبلية والمناطقية قامت بعكس ذلك تماماً. أبقت كل العفن الموجود منذ زمن ما قبل الدولة الحديثة على ما هو عليه، وغطته بمظاهر زائفة سرعان مازالت مع ثورات "الربيع العربي" حتى اندفع ذلك العفن إلى السطح. في الدولة الحديثة والتي يجب أن يكون تحققها والوصول إليها هدف الجمهورية الليبية الأولى، تنتقل ولاءات الأفراد تدريجياً من القبيلة والطائفة والجهة إلى دولة القانون، لأن هذه الأخيرة تصبح هي الحامي الأهم لهم، وهي التي تحقق لهم المساواة والحرية والتمتع العادل بالثروة الوطنية وترعى مصالحهم. وعندما يأمن الأفراد لهذه الدولة ويثقون بقانونها ويتساوون أمام دستورها وقضائها الذي يحميهم، فإن ولاءهم لما هو دون الدولة يخفت شيئاً فشيئاً. هذه السيرورة التي حدثت في كل مناطق العالم التي تحققت فيها الدولة بمعناها الحديث والقانوني لم تنطلق بنجاعة في معظم البلدان العربية، التي حكمتها أنظمة حافظت بتصميم وإرادة على البنى التقليدية لاستخدامها في ترسيخ استبدادها وشراء الولاءات وضمانها. أليس من المعيب أن عدداً من البلدان العربية لا تزال تعتمد "القانون العشائري" إلى جانب القانون المدني الحديث، حيث تمنح القبلية والعشائرية سلطة توازي وأحياناً تفوق سلطة القانون المدني؟ وأليس من المعيب أن تكون للطائفية الكلمة الأولى والنهائية في النظام القانوني والسياسي في عدد آخر من البلدان، حتى في أكثرها حداثة ظاهرية مثل لبنان، وتتحكم من خلالها بالجماعات والأفراد حتى أولئك الذين خلعوا الطائفية عن أنفسهم؟ بالعودة إلى ليبيا وانتقالها إلى الديموقراطية الدستورية، من المهم القول هنا إن التجربة الليبية الحديثة في حقبة ما بعد الاستقلال سنة 1951 غنية وتوفر دروساً مهمة، ويجب أن تبعث على الثقة بالذات. في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ورغم كل مساوئ الملكية السنوسية آنذاك، فإن التجربة البرلمانية والتشريعية والدستورية كانت قد بدأت تسير بالبلد المستقل حديثاً نحو بناء مجتمع قائم على دولة القانون والمساواة والقضاء المستقل. في سنتي 1953/1954 حدثت أزمة دستورية حادة بين المجلس التشريعي وحكومة الملك إدريس توفر بحد ذاتها مصدر اعتزاز لليبيين بكونها عكست وفي وقت مبكر جداً من استقلال ليبيا الإمكانات الزاخرة التي تحتويها المجتمعات العربية التي يتهمها كثيرون بالتخلف وعدم توائمها مع الديموقراطية والنظم الدستورية. تمثلت تلك الأزمة، والتي أرخ لها علي الديب رئيس المجلس التشريعي آنذاك في كتاب توثيقي تناول فيه اعتراض المجلس التشريعي على الصلاحيات الموسعة لوالي طرابلس بحسب مشروع القانون الأساسي للولاية، والذي يحصن الوالي من المثول أمام المجلس التشريعي للمحاسبة. رفض المجلس التشريعي القانون، وألزم الوالي بأن يكون مسؤولاً أمامه، ما أغضب الوالي المقرب من الملك إدريس، وحيث تمكن من استصدار قرار من الملك يحل فيه المجلس التشريعي برمته. لكن المجلس اعترض على قرار الملك أمام المحكمة العليا،(وهي التي كانت قد افتتحت قبل أسبوع فقط من صدور القرار)، وطعن في دستوريته، ذلك أن القرار كان يجب أن يوافق عليه مجلس الوزراء ورئيس الحكومة. وعليه أصدرت المحكمة العليا قراراً تاريخياً وجريئاً يقضي ببطلان الأمر الملكي وعدم دستوريته، وهو القرار الذي التزمت به الحكومة ممثلة برئيسها الشجاع محمد الساقزلي، وبالتالي استمرت مشروعية المجلس التشريعي. ولم يجد الملك المؤيد لوالي طرابلس حلاً سوى تغيير الحكومة نفسها ورئيسها. المهم في هذا الدرس الليبي العميق في الديموقراطية والتشريع الدستوري هو شجاعة جيل كامل واحتمائه بالدستور وتشربه الأصول الدستورية والتشريعية في وقت مبكر بعيد الاستقلال. كيف لو استمرت تلك التجربة الدستورية والتشريعية من دون انقطاع في ليبيا حتى الآن (سواء تحت ملكية دستورية، أو جمهورية)، وكيف كان شكل ليبيا السياسي والقانوني والمدني؟ لكن كيف كان لها أن تستمر مع انقلاب القذافي المدمر وعودته بليبيا وشعبها إلى المرحلة ما قبل الدستورية حيث شطب بصبيانيته السياسية كل تلك التجربة الغنية عوض أن يبني عليها، ويعمل على تحويل ليبيا إلى جمهورية دستورية ديموقراطية. ليبيا تستأنف اليوم وعيها الدستوري، لكن في ظل حرية جديدة ليس فيها مساوئ الحكم الملكي الإدريسي ونزقه، بل اندفاعة جيل شاب من الليبيين هم الورثة الحقيقيون لعمر المختار وتوقه لحرية الناس وتحريرهم. خالد الحروب – كامبردج Email: khaled.hroub@yahoo.com