يمكن الحديث عن حركات التغيير العربية باعتبارها ظاهرةً ونمطاً صار مألوفاً في بيئاتٍ معينةٍ هي بيئات الجمهوريات العسكرية والأمنية العربية. وقد ساعد على انتشار هذا الإدراك إطلاق اسم" الربيع العربي" عليها. وهي بدأت قبل أكثر من عامٍ ونصفٍ العام بتحركات شبان مدنيين من أبناء وبنات الطبقة الوسطى في المدن، ثم من المهمشين الشباب في الأرياف. وقد أصرَّت على السلمية وعلى التغيير بإسقاط الأنظمة تحت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية. وتكون الأعداد المتظاهرة محدودةً في البداية، ثم تتسارع وتتزايد باستخدام وسائل الاتصال والظهور الإعلامي، واشتداد القمع الذي يستتبع بتعاطُف وانضواءً بين فئات الشباب على الخصوص. هذه هي المشتركات في الظاهرة، ويريد بعض المراقبين إضافة مشتركٍ رابعٍ أو خامس هو ظهور الحزبيين الإسلاميين كفئة رئيسية تفرض نفسها في الميادين والانتخابات. وهكذا، وبقدر جِدَّة الثورات من جهة الشعارات، ومن جهة الفئة أو الفئات التي أطلقتها، فإن المسار مهم لجهة أدوار العسكريين والإسلاميين. وقد كان دور العسكريين مهماً لسببين: الموقف من الدفاع عن النظام القائم، والموقف من حركات التغيير ذاتها. السبب الأول خرج منه الجيشان التونسي والمصري سالمين، بينما تحطّم الجيش الليبي وزال، ويتحطم الآن الجيش السوري، وانقسم الجيش اليمني. وقد اختلفت مواقف الجيوش من الأنظمة باختلاف أوضاعها وظروفها. فالذي يبدو أن النظامين في تونس ومصر ما تلاعبا ببنية الجيش وهرميات القيادة والانضباط والدخول إلى الكليات الحربية. بل اعتمدا على الأجهزة الأمنية التي تضخمت وصارت أعظم عدداً وعديداً من الجيش أحياناً. ولذا فإن قيادة الجيشين استطاعت النظر بموضوعيةٍ إلى الأحداث الجارية، فأدركت أنها حركة تغييرٍ كبرى، يصعُبُ التصدي لها بأساليب الأجهزة الأمنية. واختلف الأمر في ليبيا القذافي، فالجيش الليبي كان قد صار ضعيفاً منذ السبعينيات، وحلّت محلَّه الأجهزة الأمنية، والكتائب الأمنية. والأجهزة بأيدي أعوان القذافي التاريخيين، والكتائب بأيدي أولاده. ولذا فعندما قُبض على القذافي وقُتل، كان معه أبو بكر يونس جابر قائد الجيش الذي كان قد تخلَّى عن قيادة الجيش المنحل والتحق بالعقيد. وإذا كانت للقوى العسكرية تركيبة مثل تركيبة الجيش الليبي السابق، فمن الخير بالفعل أن يكون ضعيفاً أو تنتشر المذابح كما حصل ويحصل بسوريا الأسد الآن. إنما لذلك عواقب؛ فإن حلَّ الجيش العراقي وقوات الشرطة لـ"إزالة الدولة السابقة كلياً"، ترك البلاد في مصيبةٍ حتى اليوم. وهو الوضع السائد في ليبيا غداة الانتخابات التشريعية فيها. إنّ الوضع الذي كان سائداً في تونس ومصر، ما توفر أيضاً في اليمن وسوريا. في اليمن هناك جيش خاض عدة حروبٍ بالداخل على الأقل(!). لكنّ الرئيس "صالح" وضع على رأس الجيش وفِرَق النخبة والأسلحة فيه، أولاده وإخوته وأبناء إخوته وبعض أقاربه. لذا ما كانت هناك طريقة لإخراج الجيش من المعمعة ضد المتظاهرين أو تحييده غير التحطم أو الانقسام. ولحسن الحظ، فقد حصل الأمر الثاني، إذ انشقّ الأخ غير الشقيق لـ"صالح" عليه وقال إنه سيحمي شباب الثورة. وبذلك تم تحييد الجيش إلى حدود بعيدة. لكن الانقسام ما انتهى بذهاب صالح، فأبناؤه وأبناء إخوته لا يزالون موجودين في قيادة الجيش، وهم لا يبتعدون عن صنعاء وتعز، بينما انصرف القسم الآخر من الجيش المطيع للرئيس الجديد لمقاتلة "القاعدة" في الجنوب! والوضع مع الجيش بسوريا شديد الخصوصية أيضاً. فالبنية الأساسية للجيش قوية وباقية، وتجمع شتاتها رئاسة أركان الحرب. لكنْ أُضيفت إلى الجيش أيام الرئيس حافظ الأسد عدة فِرَق وكتائب خاصة يرتبط قادتها بالقصر أكثر مما يرتبطون بأركان الحرب. واستقل الحرس الجمهوري عن قيادة الجيش بشكلٍ شبه تام. ثم إن أعداد وتجهيزات الفِرَق الأمنية وقوات حفظ النظام، لا تقلُّ عدداً وعديداً عن الجيش النظامي، ولا تنقصها غير الصواريخ بعيدة المدى! والكتائب الخاصة في الجيش، شأنها شأن الأجهزة الأمنية الكثيرة، والحرس الجمهوري، كلُّ قياداتها وضباطها إما من الطائفة العلوية أو من الموالين بشدة للنظام من السنة والأقليات الأُخرى. ولذا فبعد عامٍ وعدة أشهرةٍ على اندلاع الثورة في سوريا، يبدو المشهد كالآتي: الانشقاقات الكثيرة والهروب إلى المنازل والمنافي تتم من جانب عساكر الجيش النظامي، أما الكتائب الخاصة والحرس الجمهوري وكتائب الأجهزة الأمنية، فمتماسكة بشكلٍ عام، مع أنها المستخدمة بشكلٍ رئيسٍ في قتل المتظاهرين واعتقالهم، وفي خوض معارك ضد المسلحين المنشقّين عن الجيش النظامي. وما شارك الجيش اليمني بالفعل في ضرب المتظاهرين، وقد تنحلُّ مشكلته بذهاب قياداته من أقارب "صالح". أمّا الجيش السوري أو الكتائب الملحقة به وبعض فِرَقه، والحرس الجمهوري، وخاصة الأجهزة الأمنية الضخمة والشبيحة، فتزيد على المائتي ألف، لذلك فالأمر لن يستقيم بدون حلِّها أو بإعادة هيكلتها. وهذا أمر يحصل للمرة الأولى للجيش السوري وقوات الأمن. فرغم الانقلابات الكثيرة، والأحداث الأمنية المفزعة، أيام الأسدين وقبلهما؛ فإن الجيش ما شهد انشقاقات واسعة بهذا القدر من قبل، كما أن الذين شاركوا في مذابح حماة وحلب والسجون السورية الكثيرة، إنما كانوا من الكتائب الخاصة أو من الأجهزة الأمنية. وها هم ضحايا النظام في الثورة يصلون إلى حوالي العشرين ألفاً، فضلاً عن تهجير مليون ونصف المليون بالداخل والخارج، وأكثر من مائة ألف معتقل! لا يمكن المغامرة بمصير الجيش السوري من أجل أمن الحدود وتماسُك الداخل. لكنْ من جهةٍ أُخرى لن يكون من السهل ولا من المبرَّر الإبقاء بأي شكلٍ على هذه البنية والتنظيمات الميليشيوية في الجيش وقوات الأمن. وللأسباب السالفة جميعاً، فإن مشكلات الجيش وقوات الأمن ما انتهت حتى في البلدان الأربعة التي سقط رؤساؤها. فنحن نعرف أن الجيش المصري يمتلك أو يدير أكثر من ثلث موارد الدولة، وهو يريد ضماناتٍ في الدستور لامتيازاته، كي يسلِّم السلطة كاملةً للمدنيين. ومع انحسار أدوار الجيوش، فحتى في مصر وتونس، لابد أن تأتي قيادات جديدة بذهنيات جديدة تعمل على الأمن الاستراتيجي للبلاد، ولا تتدخل في الإدارة الداخلية. هكذا يكون ملف الجيوش وقوى الأمن أول الملفات الهامة بعد حصول الثورات. أما الملفُّ الثاني فهو ملف الإسلاميين، وبينهم "الإخوان" بشكل رئيس والسلفيون. ويعتمد هؤلاء على القوة الشعبية التي جمعوها من حولهم في العقود السابقة، من العامة والفقراء وبعض فئات الطبقة الوسطى. ووجودهم وتنفُّذُهم يعتمد على قدراتهم في الصراع الاجتماعي والسياسي الحالي والمقبل. فالجمهور اليومَ لا تقوده المصالح الفئوية فقط، بل تقوده أيضاً وسائل الإعلام والاتصال. إنما هناك من جهة أُخرى ظاهرتان: ظاهرة الأسلمة المتزايدة والتي أَبرزت السلفيين إلى جانب "الإخوان"، وظاهرة تشرذم القوى الليبرالية والمدنية بسبب حبها للسلطة أو لاستعصائها على التنظيم والانضباط في تيار سياسي واحد. الأمور إذن لا تزال تتّسم بالسيولة، لكنّ أبرز ظواهرها بعد الثورات: تشتُّت المدنيين، ومخاوف وتوجسات الجيوش، وصعود الإسلاميين.