دخل فن الغناء حياة العرب قبل الإسلام وبعده من مداخل مختلفة، ويمكن من خلال تتبع أخباره وقصصه معرفة الكثير، كما بينا في مقالات سابقة، عن حياة المجتمع في صدر الإسلام. فقد أولع العرب بالغناء لحاجة معيشية أحياناً، إذ كان العربي، يقول الدكتور أحمد الحوفي، "يتغنى وهو يقطع المسافات الطوال على ظهر راحلة، يهتز هزات تبطئ وتسرع، تطول وتقصر. وكان يتغنى وهو يهجم في الحرب فيجري أو يثبت، ويتغنى وهو يمتح الماء من البئر فيعلو جسمه أو ينخفض، ويتغنى وهو يرقص، ويغني وهو يزاول عملاً تصحبه العاطفة وتعوزه التسلية، تنزل به النازلة فيروّح عن نفسه بالغناء، وتبسم له الحياة فيصور حبوره في غناء. فالغناء حُداء الركب وشدو الفرد، وأهزوجة المنتصر، وأغرودة العاشق، وسلوى المكروب والمحروب". (المرأة في الشعر الجاهلي، 1936، ص 555). وقد ارتبط الشعر بالغناء منذ البداية برباط وثيق، إذ كان شعراء العصر الجاهلي يغنون شعرهم وينشدونه وهم يلقونه. وهم يعبرون عن الإنشاد أحياناً بالغناء. وكان كل من الأعشى وامرؤ القيس يغنيان في شعرهما، كما كانت النساء يتغنين بالشعر وهن يراقصن أطفالهن، وكن يبكين موتاهن بغناء حزين هو النواح، كما ناحت الخنساء على أخويها، وهند بنت عتبة على أبيها وعمها وأخيها، وكن يغنين في المعارك ليشجعن الرجال على الحرب، لقد تغنى العرب بشعرهم فرادى وجماعات، رجالاً ونساء، وتنوع غناؤهم وإن كان أصله ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً منتشراً، مثل المدينة والطائف وخيبر ودومة الجندل واليمامة. يقول الحوفي: "كانت النساء أليق باحتراف الغناء من الرجال، لأنهن في الغالب أندى صوتاً وأحلى ترجيعاً وأرق نغماً، ولأن لجمالهن وأنوثتهن أثراً في الطرب". وقد سبقه الجاحظ حيث امتدح غناء النساء وذمّ غناء الرجال، فتساءل في بعض رسائله: أيها أحسن وأملح وأشهى: أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه، أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسيمنة، أو كأنها خُرطت من ياقوتة أو فضة مجلوة". واشتهرت بعض المغنيات من القيان قبل الإسلام ممن احترفن الغناء. يقول الدكتور الحوفي: "انصرف العرب عن الاحتراف بالغناء، على شغفهم به وطربهم له. ولعل السبب أنهم كانوا يتجافون عن أنواع الصناعات، وأن مكانة المغني لم تكن توائم المكانة التي يريدها العربي لنفسه، ثم إنهم وجدوا الغناء أليق بالنساء من الرجال". ولم يكن هذا الترفع مقتصراً على الرجال، فقد انصرفت كذلك النساء الحرائر عن الغناء. ويستطرد الحوفي في حديثه عن مصاعب مهنة الغناء للنساء فيقول: "الغناء يقتضي من المرأة المغنية أن تتزين للسامعين، وأن تبرز بعض مفاتنها لهم، وأن تكون مناط أنظارهم ومجمع أشتاتهم. وما يرضى رجل عربي أن تكون ملتقى الأنظار والشهوات امرأة تربطها بها صلة، ولا تجرؤ عربية أن تشذ عن بنات جنسها، فتحتل هذا الموضع المخصص للإماء. لهذا كانت الكثرة الغالبة من القيان في العصر الجاهلي غير عربيات، وما زالت هذه الكثرة من الموالي والجواري في العصر الإسلامي والعباسي". وقد روي أن أبا تمام سمع في خراسان غناءً بالفارسية، فلم يكن يعرف معاني الكلمات، غير أنه أشجاه، فعبّر عن مشاعره بقصيدة قال فيها: ولم أفهم معانيها ولكن وَرَت كبدي فلم أجهل شجاها فكنت كأنني أعمى مُعَنَّى يحبُّ الغانيات ولا يراها واستخدمت قريش الغناء ضد الدعوة الإسلامية، وخرجوا في غزوة بدر ومعهم ثلاث قيان، ثم خرجوا في أحُد ومعهم قيانهم أيضاً. وكان الرجل يستمع إلى الغناء ليشجَعَ ويثأر. وكن يغنين في المآدب والأعراس، أو للتسلية والتطريب، كما غنت القيان أيضاً في الأسواق حيث يَنحُر الأشراف الجُزُر ويطعمون الطعام ويشربون الخمر، وتعزف القيان لهم. وكان الأعشى يشرب الخمر ويسمع الغناء الرومي عند أساقفة نجران. أما امرؤ القيس فكان يتنقل في أحياء العرب ومعه رفاقه، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه كل يوم، وخرج إلى الصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر وسقاهم، وغنته قيانه. وقد أولع الغزليون بالصوت فيه غنّه وأولع الشاربون بصوت المغنية الأبحّ، إذ يفخرون بأن البحة من أثر الخمر. وتعمق التفاعل بين الشعر والغناء، فتغنى الشعراء بشعر القيان وتغنت القيان بشعر الشعراء، ويرجح الدكتور الحوفي أن الغناء بالشعر كان عظيم الأثر في أوزانه وتطورها، إذ كان العرب يَزِنون شعرهم بالغناء. وكانت القيان أكثر غناءً بالشعر من الشعراء أنفسهم، والشعراء يسمعونهن ويطربون لهن. فهم يجودون شعرهم ويتخيرون وزنه ليكون سهل التلحين والترجيع، وإذا سمعوه يُغنى تنبهوا إلى ما قد يكون فيه من عيب في الوزن أو القافية. فلم يكن مستغرباً أن تقوى الوشيجة بين الشعراء والقيان في العصرين الأموي والعباسي. ويقدر الدكتور الحوفي الأثر الكبير للموسيقى الفارسية على البيئة العربية، حيث دخلت هذه الموسيقى بلاد العرب مع أسرى الفرس الذين وفدوا إلى مكة أفواجاً، وعلّموا العربَ الغناء على نغمات الدف والناي والطنبور والعود. لكن الحوفي يلاحظ الاضطراب في روايات أبي الفرج الأصفهاني، التي "لا تلتقي عند شخص معين يصح أن ننسب إليه السبق في إدخال الغناء الفارسي أو العربي، فهو مرة ابن مسجح، ومرة ابن محرز، وثالثة سائب خاثر، ورابعة نشيط، وخامسة طويس"، ليقول: "لست أذهب إلى إنكار أثر الغناء الفارسي والرومي في العربي، بل أؤكد أنه رفده ومدّه، وإنما أذهب إلى أن هؤلاء كان لهم فضل في تطوره وتجديده ورفده بالغناء الأجنبي، ولم يكن أي واحد مهم هو السابق، لأن العرب شرفوا الغناء من قبل، وأطربتهم به قيانهم، وتحدثوا عن آلات الموسيقى، فارسية ورومية وحبشية، قبل أن يوجد واحد من هؤلاء المغنين". ثم يضيف: "ولست أشك في أن الغناء شق طريقه نحو الرقي والكمال بعد اتصال المسلمين بالفرس والروم وغيرهم، وصار فناً رفيعاً يختص به ذوو اللهوات الحلوة، والأذواق العالية، والحس المرهف من نساء ورجال. وقد بدأ ذلك منذ صدر الإسلام، إذ انتشر الغناء وذاع، واتخذ طرباً ومسلاة".