في الذكرى السنوية الـ 236 لميلاد الولايات المتحدة نستحضر تلك الصرخة التي ملأت أرجاء الكون بتأكيدها قبل كل هذه السنوات على أن الناس جميعاً خلقوا سواسية ويقتسمون الحقوق الثابتة نفسها، لكن جوهر السياسية الأميركية يكمن أساساً في تحديد من هم هؤلاء الناس الذين خلقوا بطبيعة الأمور متساويين، ويتمتعون بالحقوق نفسها دون تمييز، فعلى مدار القرنين الماضيين كنا دائماً نستدعي تلك الصرخة الحقوقية الأولى التي صاحبت قيام الولايات المتحدة وكتابة دستورها، كلما عملنا على توسيع دائرة الناس المستفيدين من المساواة والحقوق، سواء عندما انتقلنا إلى الانتخابات الشعبية كوسيلة لتوسيع دائرة الحقوق السياسية وتعميمها على أكبر قدر من الناس، أو عندما ألغينا العبودية في إقرار آخر لمبدأ المساواة بين البشر، أو حتى عندما منحنا النساء حق التصويت والمشاركة في الحياة السياسية، وصولًا إلى إقرار وثيقة حقوق الإنسان. لكن مؤسسي الجمهورية وواضعي الدستور الأميركي الذين صدحوا بمقولة المساواة والحقوق الثابتة لم يكونوا يقصدون فقط الحقوق القانونية والمساواة من الناحية التقنية. فقد كان توماس جيفرسون عندما وضع أول مبادئ الجمهورية الوليدة يحيل إلى بلد يعيش فيه المزارعون البسطاء جنباً إلى جنب مع أصحاب الأراضي وملاك العبيد كما كان هو نفسه، وكان يطمح في أن تبقى أميركا بلداً ريفياً بامتياز مخافة تراكم الثروة والسلطة في أيدي القلة في حال تسارعت وتيرة التمدن، وفي حال أيضاً تضخم القطاع المالي. لكن في المقابل كان هناك خصمه "ألكسندر هاملتون" الذي خشي من أن تبقى أميركا بلداً متخلفاً إذا سلكت طريق "جيفرسون"، لا سيما في غياب المدن الكبرى والقطاع المالي والاقتصادي والصناعي وغيرها من ملامح الحداثة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة وقتها في أوروبا. وهكذا استخدم "هاملتون" الإمكانات المتوافرة له كوزير للخزينة لدعم الصناعة والتنمية، وفيما كانت الولايات المتحدة تنمو لتصبح قوة اقتصادية كبرى في العالم تنامت أيضاً المخاوف التي سبق أن أبداها "جيفرسون" حول تخلخل مبدأ المساواة وبرز سؤال جوهري مفاده: كيف يمكن لأميركا أن تحافظ على مبادئها المؤسسة على المساواة بين الناس والحقوق الثابتة في حين أن الفوارق الطبقية والاقتصادية ما فتئت تتصاعد في المجتمع؟ لاسيما أن تلك الفوارق في الغنى والثروة، سمحت للأغنياء بالسيطرة على النظام السياسي والتحكم فيه. ولمعالجة الخلل المصاحب للنمو الاقتصادي وتراكم الثروة في يد القلة، حاول الرئيس "روزفيلت" في بداية القرن العشرين إقرار إصلاحات مهمة لاستعادة المساواة التي تحدث عنها "جيفرسون" والتخفيف من حدة الانقسامات، ومن تلك الإصلاحات فرض ضريبة تصاعدية على الأميركيين، ووضع معايير وقواعد واضحة تحدد الأجور وتحمي العمال، بالإضافة إلى تقنين عمل النقابات، وهي الإصلاحات التي انعكست على عموم المواطنين وساهمت في تقليص مظاهر انعدام المساواة التي كانت بدأت تستفحل في المجتمع، هذا في الوقت الذي منع فيه الشركات من تمويل الحملات السياسية، الأمر الذي ساهم في الحد من تأثير أصحاب المال والنفوذ على السياسيين. غير أن هذه الإصلاحات بدأت تتآكل تدريجياً اليوم في أميركا تحت ضربات اليمين الأميركي والنخبة الجمهورية التي شنت حرباً شعواء ضد مبادئ "جيفرسون" طيلة الأربعين سنة الماضية ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، فقد أصبحت الضرائب في أميركا أقل تصاعدية من السابق، وانخفض الحد الأدنى من الأجور، وأصبحت قدرة العمال على تنظيم أنفسهم في إطار نقابات صعبة للغاية، والنتيجة أن الأجور الأميركية هي الأدنى اليوم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قياساً إلى الناتج الإجمالي المحلي، كما أن متوسط دخل الأسر ظل نفسه تقريباً على مدى العشرين عاماً الأخيرة. وفي الوقت الذي أصبح فيه البلد أغنى وأكثر إنتاجية مما كان عليه قبل عشرين عاماً، ذهبت القيمة المضافة لذلك إلى 10 في المئة من قمة المجتمع، بل إلى 1 في المئة من الأغنياء، هذا التركيز للغنى وتراكمه لدى القلة أدى أيضاً إلى تركيز السلطة السياسة في أيدي النخبة، وقد كان لقرار المحكمة الدستورية في 2010 الذي سمح للشركات الكبرى وجماعات المصالح بتمويل الحملات الانتخابية للسياسيين أثر كبير في تكريس هذا الواقع. فكيف إذن نقيم حالة المساواة التي دافع عنها الآباء المؤسسون في الرابع من يوليو؟ الحقيقة أنه فيما يتعلق بالمساواة الاجتماعية تبدو الأمور جيدة في المجتمع الأميركي، لكن فيما يتصل بالمساواة الاقتصادية والسياسية المرتبطتين مع بعضهما البعض تبقى الصورة قاتمة، ويظهر ذلك بشكل واضح في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، إذ رغم المسؤولية الكبيرة للبنوك التي أغرقت البلد في ورطة مالية حقيقية، استطاعت بفعل نفوذها وقربها من صناع القرار إنقاذ نفسها، هذا في الوقت الذي تواصل فيه مجموعة من رجال الأعمال تمويل الحملات الانتخابية للسياسيين، وتستمر أيضاً حصة الأميركيين من الدخل الوطني في الانحدار. وبدلاً من وقوف الجهاز القضائي ضد هذا التآكل للقوة الاقتصادية للمواطنين يعمل قضاة المحكمة الدستورية ومعهم الحزب الجمهوري على ترسيخ الفوارق الاقتصادية وتعميق اللامساواة، ويبقى الاستثناء الوحيد ضمن هذه الصورة القاتمة قانون الرعاية الصحية الذي وسع من مبدأ المساواة "الجيفرسونية" لتنسحب على المجال الطبي، وهو إنجاز وإن كان متواضعاً فإنه يذكرنا بالطريق الطويل، الذي ما زال أمامنا قبل الوصول إلى الرؤية الجيفرسونية للمساواة. هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"